د. محمد بن يحيى الفال
ليس هناك وصف دقيق يناسب زيارة سمو الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد ووزير الدفاع إلى روسيا، سوى وصفها بالتاريخية، كونها نقلت العلاقات السعودية الروسية نقلة نوعية ومحورية نحو تعاون حقيقي وشراكة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات بين البلدين. تاريخياً،
فروسيا التي كانت قلب اتحاد الجمهوريات السوفيتية، كانت أول دولة في العالم تعترف بالمملكة في العشرينات من القرن المنصرم، وتسارع بفتح قنصليتها في جدة وتعين فيها الدبلوماسي المسلم ذو الأصول البشكيرية كريم حكيموف كأول ممثل روسي لدي المملكة، والذي ارتبط بعلاقة شخصية مميزة مع الملك المؤسس - طيب الله ثراه - والذي أدى إعدامه من قبل السلطات الشيوعية في العام 1938 إلى قطع العلاقات الدبلوماسية السوفيتية السعودية ورفض الملك عبدالعزيز استقبال سفير روسي جديد. وتاريخياً أيضاً كانت الظروف الجيوسياسية (دور المعطيات الإنسانية والجغرافية في التأثير على القرارات الخاصة بالعلاقات الدولية)، والتي تلت الحرب العالمية الثانية أثرت بشكل كبير للغاية في علاقات الاتحاد السوفيتي مع دول العالم ومنها المملكة، وهو الخارج من انتصار باهر ضد ألمانيا النازية، ولتكون قوات الصاعقة التابعة للجيش الأحمر السوفيتي هي أول قوات الحلفاء التي تقتحم مبني مستشاريه الرايخ ببرلين مقر زعيم النازية أدولف هتلر في الثلاثين من شهر أبريل 1941، منهية أحلام هتلر والنازية بضم الاتحاد السوفيتي إلى إمبراطورية الرايخ الثالث، من خلال عملية بارباروسا(Unternehme Barbarossa)، والتي جهز لها هتلر أكثر من خمسة ملايين جندي بجبهة قتال تمتد لحوالي ثلاثة آلاف كيلومتر. قدم السوفيت خلال الحرب ضد النازية تضحيات هائلة وخسائر فادحة، على أن محصلتها النهائية كانت نصراً مؤزراً للقوات السوفيتية لينتقل الاتحاد السوفيتي بهذا النصر نحو تبوء مكانة محورية في تقرير مصير السياسة الدولية. وكانت النتيجة العملية للنصر في الحرب زيادة شهية ضم أراض جديدة للاتحاد السوفيتي والتي أسس لها الرئيس السوفيتي جوزيف ستالين والذي حكم الاتحاد السوفيتي بالحديد والنار، وفرض سيطرة الاتحاد السوفيتي على العديد من المناطق ذات الأغلبية المسلمة في شرق وجنوب الاتحاد السوفيتي، إضافة إلى دول كتلة الدول المنضمة تحت لواء الاتحاد السوفيتي في أوربا الشرقية والتي أفضت لتأسيس حزب وارسو الذي ضم كل دول أوربا الشرقية، وكان ديدن أيدلوجية العملاق السوفيتي المنتصر هي الأيدلوجية الشيوعية التي رفعت شعارات الصراع بين طبقة البروليتاريا المسحوقة( طبقة العمال الكادحين)، وطبقة الأرستقراطيين البرجوازيين المتحكمة برأس المال. وطغي على هذه المرحلة من تاريخ الاتحاد السوفيتي فكرة المد الثوري والذي كان يخفيمن ورائه أطماع التمدد السوفيتي في كل بقعة استطاع الوصول إليها ومنها المنطقة العربية والتي وجد موطئ قدم فيها في العراق وسوريا ومصر وما يسمي باليمن الجنوبي حينذاك. إجمالاً، هناك ثلاث مراحل أساسية كانت من وراء ضعف وتردي العلاقات الروسية السعودية، وهي المرحلة الأولى والتي سبقت الحرب العالمية الثانية بإعدام السلطات الشيوعية السوفيتية للسفير كريم حكيموف وقطع الملك عبدالعزيز للعلاقات بسبب ذلك، المرحلة الثانية وهي مرحلة التمدد الشيوعي والثوري الذي تلى انتصار السوفيت في الحرب الكونية الثانية، والمرحلة الثالثة وتتلخص بانشغال الدولة السوفيتية خلال حقبة التسعينات من القرن المنصرم بالأمور الداخلية والتي أدت في المحصلة النهائية لتفكك الاتحاد السوفيتي وزاد من سوء العلاقات ما حدث بين المرحلة الثانية والثالثة والمتعلق بالغزو السوفيتي لأفغانستان في أوائل الثمانينات من الألفية الثانية.
كان لا بد من هذه التوطئة التاريخية لمعرفة الأسباب التي حالت دون تقوية العلاقات بين المملكة وروسيا والتي كان من البديهي أن تتطور لأسباب عديدة وجوهرية تربط بين البلدين، من أهمها كونهما من أكبر منتجي ومصدري الطاقة العالمية، روسيا تضم نسبة كبيرة من سكانها من المسلمين والذين يرتبطون روحانياً بالمملكة العربية السعودية، حقيقة جعلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يصرح بأن روسيا بلد إسلامي، وإضافة لما سبق فالبلدان يشهدان تنمية متسارعة في المجالات كافة خصوصاً مع تحول الاقتصاد الروسي تدريجياً من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق والذي يحتاج لأسواق جديدة للتبادل التجاري والاستثماري. وإضافة لكل الحقائق السابقة فالعامل الجغرافي والمتمثل في القرب الجغرافي النسبي بين البلدين يحتم عليهما التعاون بعد حقبة طويلة من البعد عن بعضهما بسبب عوامل سياسية مجملها فرضتها ظروف دولية في مجملها. ولتأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد لروسيا كبلسم وضع رؤية طال انتظار تطبيقها لبدء مرحلة من التعاون بين المملكة وروسيا، ولعل أهم إنجازات الزيارة هو وبلا شك التوقيع على اتفاقية تنشئ بموجبها روسيا ست عشرة محطة نووية في المملكة للاستخدامات السلمية، هذا المشروع يعد إنجازاً في غاية الأهمية ومحورياً لمستقبل التنمية في المملكة والتي يرأس الأمير فيها مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية. ستوفر المحطات النووية ملايين البراميل من المنتجات البترولية والتي تزداد كميتها باستمرار من أجل توليد الطاقة الكهربائية وتحلية المياه المالحة والتي تعتمد عليها المملكة في مياه الشرب. إن توقيع إنشاء المحطات النووية من قبل ولي ولي العهد وهو المسئول الأول عن ملف التنمية في المملكة سينقل جهود الدولة التنموية بشكل جذري نحو أفق جديد للاستفادة من عائدات النفط في تمويل برامج تنموية ملحة تواكب الزيادة المستمرة في السكان في مجالات التعليم، الصحة ، الإسكان والتوظيف. من الحق أن توصف زيارة سمو ولي ولي العهد لروسيا بالتاريخية، ليس لما يحاول بعض المحللين بتوصيفه بأنه تحول في وجهة السياسة الخارجية للمملكة نحو روسيا عوضاً عن الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، وهو تحليل أخطأ التقدير قطعاً، فوصف الزيارة بالتاريخية مرده للاتفاقات التي أبرمت خلالها خصوصاً في مجال الطاقة النووية وليس في فيما يخص تغير في مسار السياسة الخارجية للمملكة. والحقائق اواضحة والجلية ولمن يرفض أن يراها تقول إن علاقات المملكة مع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة هي علاقات متجذرة وإستراتيجية وستبقي بكونها ليست وليدة اللحظة أو المرحلة، بل هي علاقات بنيت على سنين من التعاون والشراكة التي جعلت منها علاقات نموذجية يحتذى بها للعلاقات بين الدول.
ما يطمئن على ضوء الاتفاقيات التي وقعها الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد وزير الدفاع، ورئيس مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية، أن ملف التنمية في المملكة قيض الله له بحكمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، شخصية مثل ولي ولي العهد، شخصية قادرة عملياً وليس تنظيرياً للدفع بخطط التنمية في المملكة نحو رؤى وإستراتيجيات ستصب في مصلحة الوطن والمواطن. وما توقيع اتفاقية المحطات النووية مع روسيا سوى أول غيث في طريق تنمية مدروسة، حقيقية ومستدامة لبلادنا، وسوف يتبعها - بإذن الله - مطر من خير لأجل صالح البلاد والعباد.