تركي إبراهيم الماضي
ولدت في العام الذي شهد نصر العرب المؤقت على إسرائيل، بما عرف بحرب 6 أكتوبر. كان نصراً رمزياً تغنى به من تغنى، لكنه لم يأت بجديد!
كبرت وأنا لا أعي ما كان في بلاد العرب إلا ما نسمعه ونشاهده في التلفاز في أخبار التاسعة، اضطراراً لمتابعة المسلسلة اليومية بعدها.
درست في الجامعة ما فات على جيلي معايشته في فترة ما قبل 6 أكتوبر. كان قسم العلوم السياسية يزخر بالأساتذة ذوي التوجهات الفكرية المتنوعة. كنا في البداية نراه تناقضا تاما بين ما يريده هذا الأستاذ أو ذاك، أو الرؤية المختلفة للحدث بينهما، نتيجة اختلاف التوجهات الفكرية.
كنا نشاهد من يسخر من القومية العربية، وفي القاعة المجاورة هناك من يحاول أن يزرع بذورها في عقول شباب لم يشهدوا فترة الحركات القومية العربية.
كنا نستفيد من هذه التناقضات في تكوين المزيد من التناقضات. لم نكن نعرف من فيهم من ينقل لنا الحقيقة دون سواها. لذا مارسنا شغب المراهقة اللذيذ. كنا ننقل لأستاذ مادة الفكر السياسي الإسلامي ما يقوله الأستاذ الليبرالي عن جوهر العلمانية. وما يقوله المهموم بالقومية إلى من يراها سبب نكسة وتخلف العرب.
تعمقنا في القراءات التخصصية في الفصول الدراسية المتقدمة، وبدا هذا التناقض مفهوما لدينا. توقفنا عن مشاغباتنا في نقل الكلام وإن لم تنتهِ تماما. بدأت مرحلة الأسئلة الحرجة التي لا تجد جواباً واضحاً. لماذا كل هذا الحراك التي شهدته فترة الخمسينيات والستينيات الميلادية لم يخلق واقعا جديدا للعرب؟
كل ما قرأناه، وعلى الأقل بالنسبة لي، لم أجد به سوى صراخاً أكثر من حراكاً. شعارات براقة، كلمات منمقة، وخطب ملتهبة تنتشي بها إذاعات وشاشات التلفزة في دول العالم. الميزة الفريدة التي لاحظتها في تلك الفترة، أنه كلما مرت ببلاد العرب نكسة أو هزيمة، أو سمها ما شئت، يعلو صوت الأغاني بوعد تحرير القدس. أي أغنية التي تحرر شبرا من الأرض؟
كل الجهد الذي بذل في تلك الفترة، وهو في بعضه جهد عظيم، لكنه ضاع بين أصوات الموسيقى العسكرية، هو صوت كما قال عنه شاعر أغنية «زمان الصمت»:
«وترحل صرختي..
تذبل..
في وادي..
لا صدى يوصل..
ولا باقي أنين»!
كنت أراه صوتاً عالياً أقرب ما يكون للزعيق، لا تستطيع أن تفهمه، لكثرة الضجيج المتصاعد. تؤمن أنه صراخ الغريق، لكنك لست متأكدا إذا كان صوت غريق، أو صوت رجل مخمور أضاع الطريق!
مرت سنوات طويلة، قبل أن أعرف أن الصوت وإن كان يخالطه الضجيج، إلا أنه يعبر عن موقف، وحتى وإن بدا يائسا، إلا أنه يسجل موقفا لصاحبه!
هل سنفقد صوتنا؟