أ. د. فالح العجمي
تلقى كثيرٌ منا بكل تأكيد رسائل مباركات بدخول شهر رمضان متعددة الأساليب، لكنها غالباً ما تحتوي شكل سجعة، ومضمون ثنائية، تجعلها من عبارات التهنئة المرغوبة لدى العرب.. من تلك العبارات الشهيرة: «اللهم اجعلنا من صوّامه وقوامه»!.. فالعربي قديماً وحديثاً ربما لا يشعر بأن كلامه مؤثر ما لم يكن فيه ذلك الجرس الصوتي، ويكون فيه طرفان تجري بينهما المقابلة كالصيام والقيام (وهنا تكتمل صورة الظاهرة بسبب وجود السجع مع التقابل الدلالي بين حدثين خاصين بشهر رمضان)، أو الدنيا والآخرة، أو الأرض والسماء، أو العبادة والسعادة (وهنا أيضاً تقابل مزدوج).
سيقول بعضنا، بأن هذه أساليب محفوظة، يرددها الناس عند بلوغهم المناسبة، ورغبتهم في أن يكونوا ضمن المتعارف عليه في التهنئة بتلك المناسبة الدينية، وهو صحيح في مجمله، لكنها - في الواقع - قد أصبحت ثقافة متأصلة في ذهن العربي، لا يكاد ينفك عنها في حماسه للمتواليات، خصوصاً إذا كان جرسها الصوتي متناسقاً، بغض النظر عن مدى تعبيرها عن الواقع الفعلي، أو منطقية المضمون.. وسأورد مثالين لذلك التوسع فيما أسميه «ثقافة القطيع»، حيث لا يدقق المرء فيما يقول، أو ما يريد التعبير عنه؛ وإذا جرى تنبيه أحدهم إلى ذلك، قال: «لا تدقق! أنت تعرف المراد، والمهم إن اللغة تعبر عما أردت قوله»، بينما هذا كلام غير دقيق، فعباراته لم تعبر عما أراد إلا بصورة تقريبية.. أحد المثالين: العبارة المتكررة على ألسنة عدد كبير من أصحاب المضامين التقريبية، الآخذين باستعمال الكليشيهات المنتشرة على ألسنة العامة، هي عبارة «لا أقل ولا أكثر».. وهي في اللغة محددة المضمون، بمعنى أن الكمية المطلوبة، أو الحد المقصود يقع في تلك النقطة بالذات، دون زيادة فيها أو نقصان؛ في حين نجد استخدامها يمتد إلى التعبير بعدم الزيادة، وفي هذه الحال يفترض أن تكون: «لا أكثر»، وكذلك إلى التعبير بعدم النقصان، وفي هذه الحال يفترض أن تكون: «لا أقل».. لكن إحساس بعض مستخدمي اللغة بأن عبارة مثل: «نرغب في الوصول إلى هذا الحد لا أقل من ذلك»، أو: «نرغب في تحقيق ذلك المستوى لا أكثر» بأنها ناقصة، لأنها لا تحتوي تلك الثنائية.
أما المثال الثاني، فهو خاص بالمضمون، بين الصفات المتضادة، الخير والشر، القوة والضعف، وغيرها من صفات ترسخت في ثقافة العرب، وكأنه لا بد من وجود تلك الأقطاب، وتحقيقها في الواقع.. فقد قرأت تصريحاً لمسؤول سعودي في بلد أجنبي، يعلِّق فيه على حالات اختطاف السعوديين، التي نقلت بعض الأنباء تواترها؛ فقد نفى ذلك (وهذا موقف موضوعي إذا كان يستند إلى وقائع)، لكنه أضاف: «أحمّل مسؤولية انتشار الشائعات بعضاً من ضعاف النفوس»، وتعهّد بملاحقتهم وإبلاغ الجهات المعنية عنهم.. لماذا هم «ضعاف النفوس»؟ من ينشر شائعة؛ إما أن يكون قد وقع في فخ خبر ملفّق، أو أن يكون له هدف سياسي أو اجتماعي أو غير ذلك، وليس للأمر أي علاقة بقوة النفس أو ضعفها، لكنها المقابلات، التي يهيم العرب حباً في استخدامها.. وإن كانت الظاهرة أقل أهمية على ألسنة العامة؛ فإنها ليست كذلك على ألسنة المسؤولين، الذين يفترض أن يزنوا كلامهم، لأنه تتناقله وسائل الإعلام، وحتى إلى ثقافات أخرى، لو ترجمت إليها هذه العبارات ستكون مضحكة جداً.. ومثلها عبارات «المغرر بهم» للإشارة إلى الإرهابيين، الذين ينفذون عمليات انتحارية، وهي إشارة إلى «فكرهم التابع»، وليس إلى عملهم «الإجرامي».. وأخيراً فإن عدم إدراج هذه المعارف في مناهج التعليم هو ما يجعل «النسبية» عندنا غائبة عن الفكر والتطبيق.