د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ومن النماذج التي تكشف عن إعجاز القرآن البلاغي في استخدامه للاستثناء، وكيف تنهار التوقعات وتتفجر المفاجآت بعد أداء الاستثناء ما جاء في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (8-9) سورة البروج، حيث جاءت هاتان الآيتان في سياق وصف قصة أصحاب الأخدود وما كان من تعذيبهم للمؤمنين، وهنا يُبيِّن القرآن الكريم السبب الحقيقيَّ والعلَّة التي من أجلها قام هؤلاء الكفرة بحفر الأخاديد وإلقاء المؤمنين فيها لإهلاكهم حرقاً. ويتَّضح تأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه في الآية الأولى،
حيث ينفي القرآن الكريم وجود صفات العيب والنقمة من هؤلاء المؤمنين المعذَّبين، ثم يستثني من ذلك صفةً واحدةً وهي الإيمان بالله العزيز الحميد.
واستخدام القرآن الكريم لهذا الأسلوب البديعيِّ في هذا السياق يؤكِّد أمرين:
الأول: تأكيد مدح المؤمنين، وذلك بتقرير براءتهم مما يُعاب ويُنكر بالكليَّة، وبيان ذلك أنَّ المولى عز وجل لما ذكر ما حلَّ بهم من عذابٍ وفتنة، وإهلاكٍ وحرق، ذكر علَّة ذلك عن طريق هذا الفنِّ الطريف، وبين أنَّ ما عُذِّبوا من أجله هو إيمانهم بالله عز وجل لا لأيِّ سببٍ آخر، وهذه الصفة صفة مدحٍ لا يستحقُّون أن يُعاقبوا عليها.
الثاني: تأكيد ذمِّ هؤلاء الكفرة الظالمين، والتعريض بجهلهم وغبائهم، حيث جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحاً حتى نقموا عليه، فقد شقُّوا الأخاديد وأضرموا النيران وأهلكوا المؤمنين، لا لأيِّ شيءٍ إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، وهذه الصفة مُستحقَّةٌ أن يُثاب عليها، لكنَّ الكفر والطغيان أعمى بصيرتهم حتى جعلوها نقمةً وعيباً يُعاقب فاعلها.
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من طرافةٍ وخلابةٍ يتآزر معهما عنصرا المفاجأة والمباغتة، وهذا مما يُثير الفكر ويُوقظ العقل ويُشوِّق النفس، كما أنه أسلوبٌ يستدرج المتلقِّي ويجعله مُترقِّباً لما سيأتي من الحديث، فيتفاجأ من النتيجة التي قرعت قلبه على خلاف ما كان يتوقَّعه من المقدِّمات.
وبيان ذلك أنَّ من يتأمَّل مطلع السورة والحدث الرئيس فيها يُحسُّ بالغضبة الإلهية الكبرى منذ البداية على أصحاب الأخدود، فيتشوَّق لمعرفة سبب هذا الغضب وعلَّة هذا اللعن الذي أقسم الله عز وجل عليه، ويتيقَّن أنه ما حصل إلا لأمرٍ عظيم، وهنا يصوِّر القرآن الكريم ما فعله أولئك الطغاة من تنكيلٍ بالمؤمنين وتعذيبٍ لهم بهذه الطريقة المشينة، وبعد أن يتفاعل المتلقِّي مع هذه الأحداث ويعيش هذا الجوَّ المرعب يدفعه ذلك للتساؤل عن سبب هذه الفعلة الشنيعة التي استحقَّت غضب الله ولعنه، وحينها يُطلق خياله لكلِّ سببٍ استحقَّ به أولئك المعذَّبون هذا العذاب، ويتصوَّر كلَّ فعلٍ شنيعٍ كان علَّةً لهذا الحرق والتنكيل.
عندها يُعلن القرآن الكريم من خلال هذا اللون البديعي ما ينتظره المتلقِّي بلهفةٍ وشوق، وهو أنَّ هذا الحرق وذلك التعذيب لم يكن لعيبٍ في المؤمنين أو مثلبةٍ فيهم، وحينها يتفاجأ المتلقِّي بهذا الخبر ويزيد غضبه وحنقه على هؤلاء الظالمين، لكنَّ هذا الشعور سرعان ما يتوقَّف حين يطرق سمعه أداة الاستثناء مما يجعله يتراجع عن غضبه، وربما شكَّ في الكلام السابق، ويتوقَّع أن يرِدَ بعد هذه الأداة ما يُوجب تلك العقوبة، ويعود إلى تخيُّل هذا الذنب العظيم الذي أُهلك بسببه أولئك المؤمنون، وحينئذٍ تأتي المفاجأة الكبرى التي تعقد اللسان وتُدهش النفس وتُوقع في الحسِّ أقصى معاني التعجُّب والاستغراب، وهي أنَّ ذلك الذنب ما هو إلا الإيمان بالله العزيز الحميد، فيُحسُّ المتلقِّي عند ذلك بشدَّة ظلم هؤلاء الكفرة، ويوقن بسبب تلك الغضبة الإلهية، ويستشعر فضل أولئك المؤمنين وتأكيد مدحهم وعظم جزائهم. وقد زاد من تأكيد مدح هؤلاء المؤمنين ما ذُيِّلت به الآية الكريمة من صفات المولى عز وجل، وما أفصحت عنه الآية التالية كذلك، كما أنَّ تلك الصفات تؤكِّد في الوقت نفسه شدَّة جهل أولئك الكفرة ومدى ظلمهم وسوء ما ينتظرهم، يقول أبو حيان: «وذكر الأوصاف التي يستحقُّ بها تعالى أن يؤمَن به، وهو كونه تعالى عزيزاً غالباً قادراً يُخشى عقابه، حميداً مُنعماً يجب له الحمد على نعمته، له ملك السموات والأرض وكلُّ مَن فيهما يحقُّ عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأنَّ ما نقموا منهم هو الحقُّ الذي لا ينقمه إلا مُبطلٌ مُنهمكٌ في الغي». ويضيف النيسابوري: «وفيه إشارةٌ إلى أنه لو شاء منعهم عن ذلك التعذيب، لكنه أخَّرهم إلى يوم الجزاء، ودلَّ عليه بقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (9) سورة البروج.
وتأمل الاستثناء في قوله تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} (6-7) سورة الغاشية، حيث جاءت هاتان الآيتان في سياق وصف مشهدٍ من مشاهد يوم الغاشية، وهو مشهدٌ لما يُلاقيه أصحاب الوجوه الخاشعة حينذاك من صور العذاب المتنوِّعة، وهاتان الآيتان تتحدَّثان عن صورةٍ من تلك الصور فيها يصف القرآن الكريم طعامهم الذي سيُقدَّم لهم وهم في وسط النار الحامية.
والقرآن الكريم يستخدم أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه في عرض هذه الصورة الرهيبة، فهو ينفي في صدر الآية وجود الطعام لهم، ثم يستثني من ذلك الضريع الذي وصفه بأنه لا يُسمن ولا يُغني من جوع. وفي هذا الأسلوب القرآني تهكُّمٌ وسخريةٌ من أولئك الكفرة أصحاب الوجوه الخاشعة وتلاعبٌ بنفسياتهم، كما أنَّ فيه تأكيداً للعذاب الذي هم فيه، وتقريراً لوقوعه وحصوله، وهو مما يتَّسق مع جوِّ هذا المشهد الذي يفيض تهديداً ووعيدا، وتُشكِّل آياته لوحةً مُرعبةً من العذاب الأليم الذي سيكون من نصيبهم في يوم الغاشية العظيم.
فبعد أن ذكر القرآن الكريم ما يعتري وجوه هذا القسم في ذلك اليوم وبيَّن حالهم ومآلهم ومشربهم ذكر في هذه الآيات مأكلهم وما يتغذَّون به، وما دام أنَّ الجوَّ جوُّ تعذيبٍ وتنكيل، والمشهد مشهد وصفٍ لما سيُقدَّم لهم في تلك النار الحامية، فقد كان من المتوقَّع أن يذكر القرآن الكريم في وصف طعامهم ما يسوؤهم، ويزيد من ألمهم ومعاناتهم، وهذا ما حصل بالفعل لكن بعد تهكُّمٍ واستهزاءٍ وتلاعبٍ بالنفسيات، وبأسلوبٍ فيه مع ذلك مزيد تأكيدٍ وفضل تقرير، وهذا مما ينسجم مع حال المخاطبين المشركين الذين كانوا منكرين لهذه الأمور جاحدين لها.
فقد صُدِّرت الآية الكريمة بنفي الطعام عنهم في جهنم، وأنهم لا يجدون فيها ما يسدُّ جوعتهم مهما كان حقيراً أو قليلا، ولعلَّه لأجل ذلك نكَّر لفظة (طعام)، وحين يرد هذا النفي يدبُّ اليأس في قلوبهم ويتوهَّمون أنَّ وجود طعام - أي طعامٍ - كان سيُخفِّف عنهم بعض ما هم فيه، وسيكون أفضل حالاً من نفي الطعام بالكلية، وحين يستقرُّ هذا المعنى في نفوسهم، ويسلِّمون أمورهم، تأتي أداة الاستثناء لتُحرِّك مشاعرهم، وتستثير عقولهم، وتردَّ شيئاً من الأمل في نفوسهم، ويتوهَّمون أنَّ الله سيرأف بهم، وحينها ترد المفاجأة الفاجعة، وهي أنَّ طعامهم ما هو إلا الضريع، وحين ترد هذه اللفظة تتوقَّف آمالهم عن التخيُّل، وتتلاشى أمانيهم، ويعود اليأس ينخر قلوبهم كما كان، ولكن بعد حسرةٍ وتحطيم، ومزيد يقينٍ أكيدٍ باستمرار العذاب، وانقطاع كلِّ أملٍ بتخفيفه.
ولئن كان بعض المشركين لما سمع هذه الآية قال: إنَّ إبلنا لتسمن على الضريع، وقد كذبوا في ذلك؛ فإنَّ الإبل إنما ترعاه مادام رطبا، فإذا يبس لا يأكله شيء، يجيء النظم الكريم ليقطع كلَّ أمل، وينفي كلَّ توهُّم من شأنه أن يُحيي أملاً في قلوبهم، ويؤكِّد هذا العذاب الأليم ويُقرِّر أنه سيكون من نصيبهم؛ ولذلك يُوصف هذا الضريع بأنه لا يسمن ولا يُغني من جوع، أي منفعتا الغذاء مُنتفيتان عنه، وهما إماطة الجوع وإفادة السمن في البدن.
وأختم بهذا النموذج الذي يصور عمق إخلاص الأعمال إلى المولى عز وجل، ما جاء في سياق قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} الليل: 17-21)، حيث لما خوَّفت الآيات السابقة من النار، وبيَّنت أيَّ صنفٍ من الناس سيصلاها، ذكر هنا الفريق المقابل الذي سيتجنَّب هذا المصير الأليم، وأوضح الأسباب التي أدَّت إلى ذلك مُرغِّباً فيها وحاثاً على الاتصاف بها في الدنيا.
ففي هذه الآيات يُبيِّن القرآن الكريم القسم الثاني من الناس، وهو القسم الذي سيُجنَّب عذاب الله وناره المتلظِّية، وهو الذي بالغ في اتقاء الله عز وجل بصيانة نفسه عن كلِّ ما يُغضبه، وحرصه كلَّ الحرص على فعل ما يُرضيه، ثم وصفه بوصفٍ آخر، وهو إنفاق المال حال كونه لا يطلب من وراء ذلك رياءً أو مفاخرة، بل تزكية ماله وتطهير نفسه.
ويتضح تأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه في الآيات التي وردت بعد ذلك، حيث نفى القرآن الكريم وجود أمرٍ يدعو ذلك الأتقى لإنفاق ماله من نعمةٍ لأحدٍ عليه، ثم استثنى من ذلك أمراً واحداً، وهو ابتغاء ما عند الله من الأجر والثواب.
وقد حكى غير واحدٍ من العلماء إجماع المفسرين على أنَّ هذه الآيات قد نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه لما أعتق بلالاً رضي الله عنه قال المشركون: ما فعل ذلك إلا ليدٍ كانت لبلالٍ عنده، وهو قولٌ من بهتانهم يُعللِّون به أنفسهم كراهيةً لأن يكون أبو بكر رضي الله عنه قد فعل ذلك محبَّةً للمسلمين، فأنزل الله عز وجل تكذيبهم بهذه الآيات.
ونبَّه بقوله (تجزى) على أنَّ نعمة الإسلام التي لرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الأتقى لا تُجزى، فإنَّ كلَّ ذي نعمةٍ يُمكن جزاء نعمته إلا نعمة الإسلام، فإنها لا يُمكن المنعم بها عليه أن يُجزى بها، وهذا يدلُّ على أنَّ الصدِّيق رضي الله عنه أول وأولى من ذكر في هذه الآية، وأنه أحقُّ الأمة بها. فهذه الآية صفة مدحٍ تقرِّر صفات المدح السابقة وتؤكِّدها، وتجعل المتلقِّي يوقن بأنَّ هذه الصفات هي التي ستنجيه من تلك النار المتأجِّجة، كما تجعله يُعجب بهذا الأتقى ويستشعر عظيم فضله وجميل مدحه، كيف لا يكون كذلك وهو ينفق ماله دون أن يكون عليه عند أحدٍ من الناس فضلٌ أو نعمةٌ تستحقُّ أن يُجازيه عليها؟
وحين يتقرَّر هذا المعنى في ذهن المتلقِّي ويستقرُّ في نفسه تأتي أداة الاستثناء لتُثيره وتُحرِّك مشاعره، وتجعله يشكُّ في الكلام السابق الذي اشتمل على مدحٍ عظيم لهذا الأتقى، ويتوهَّم المتلقِّي حينها أنه ما فعل ذلك إلا لأجل نعمةٍ كانت عليه عند أحدٍ من الخلق، ويطلق لخياله العنان في توقُّع هذه النعمة وهو يوقن أنها ستُفسد عمل ذلك الأتقى بلا ريب؛ حيث لم يكن عمله خالصاً لوجه الله، وحينما ينتظر المتلقِّي ماهيَّة هذه النعمة يُعلن القرآن الكريم أنَّ ما دعا ذلك الأتقى للإنفاق هو ابتغاء وجه ربه الأعلى، ووقتها تحصل المفاجأة، ويخيب التوقُّع، ويزداد المدح مدحا، ويتأكَّد فضل ذلك الأتقى ويتقرَّر عظيم فعله وجميل صنعه.
يقول البقاعي في ذلك: «وعبَّر عن المنقطع بأداة المتصل للإشارة على أنَّ الابتغاء المذكور كأنه نعمةٌ ممن آتاه المال؛ لأنَّ الابتغاء -وهو تطلُّب رضا الله- كان السبب في ذلك الإيتاء بغاية الترغيب، وقد آل الأمر بهذه العبارة الرشيقة والإشارة الأنيقة مع ما أومأت إليه من الترغيب، وأعطته من التحبيب إلى أنَّ المعنى: إنه لا نعمى عليه لأحدٍ في ذلك إلا الله».
وقد زاد من تأكيد المدح في هذا السياق التعبير بالوجه، ففيه إشارةٌ إلى أنَّ قصده أعلى القصود، فلا نظر له إلا إلى ذاته عز وجل التي عبَّر عنها بالوجه لأنه أشرف الذات، وبالنظر إليه تحصل الحياة والرغبة والرهبة، لا إلى طلب شيءٍ من دنيا ولا آخرة، كما يأتي وصف (الأعلى) ليؤكد أنَّ ذلك الإنفاق ما كان إلا لأجل ربٍّ هو القاهر الذي يستحقُّ أن تُنفق الأموال في سبيله.
ثم يأتي ختام السورة ليتوِّج ذلك المدح، ويقرِّر نتيجة تلك الأفعال العظيمة، إنه الرضى ينسكب في قلب هذا الأتقى، إنه الرضى يغمر روحه، إنه الرضى يفيض على جوارحه، إنه الرضى يشيع في كيانه، إنه الرضى يندي حياته، وياله من جزاء! ويا لها من نعمةٍ كُبرى! وهذا من حسن الختام الذي تميَّزت به السورة الكريمة.
هذه بعض جماليات الاستثناء القرآني التي مثلها هذا الأسلوب الفني الجميل، حاولت من خلالها أن أكشف عن مظهر من مظاهر إعجازه العظيم وبراعة تفننه في القول، وقد تناولتها وغيرها في كتابي الخاص ببلاغة البديع وجماليات القول في القرآن الكريم، موقناً أنه مهما حاول العقل البشري في التأمل والتدبر فإنه لن يصل إلا إلى نزر يسير من أسرار إعجازه وجماليات بلاغته.