قاسم حول
كان ذلك عام 1975. حين ذهبت إلى منطقة هور «الصحين» في جنوبي العراق لتصوير فيلم «الأهوار».
«هور الصحين» واحد من أهوار العراق التي تصدر الثروة السمكية إذ أن هناك أنواعا من الأسماك لا تتكاثر وتتوالد سوى في تلك المناطق بين القصب النابت في الماء. وثمة طيور آتية من أنحاء الدنيا عبر الفضاءات لتستقر في أهوار العراق طوال موسم الشتاء حيث الدفء والشمس والمياه الوافرة.
أكواخ القصب تبنى فوق المياه على جزيرة تسمى «الجباشة» وهي جزيرة متحركة من البردي،. وحين تهب العواصف والأمطار فإن البيوت ترحل كما السفن وتتغير مواقعها على مساحات الأهوار!
في التقاء الأهوار باليابسة بنيت المدرسة بحيث يتمكن الأهالي من الوصول مساء لإعادة أبنائهم بعد إنتهاء الدوام، وهو مشهد كرنفالي مثير في فيلم «الأهوار»
غادرت العراق «قسرا» وعلمت أن أهالي الأهوار طلبوا مشاهدة فيلمهم. جلبوا الفيلم وعرضوه على قماشة بيضاء تسمى مجازا «شاشة» وجاء الناس بزوارقهم ليلا بالمئات وكل زورق تجلس فيه العائلة ليشاهدوا أنفسهم على الشاشة. لم يكن يثيرهم موضوع الفيلم ولا الجانب الاقتصادي والاجتماعي الذي تناوله الفيلم بل هم ينتظرون أن يظهر الطالب أو المعلم أو الطبيب على الشاشة أو يظهر الأب أو الأم فيصرخ الجميع باسمه، ويبدأ الضحك في ليل الأهوار العراقية.
عرفت بأن الدكتاتور جفف الأهوار وأحرق قصب الأهوار، الذي نبت قبل أكثر من سبعة آلاف عام. وعرفت بأن فيلمي وهو الشاهد الوحيد وبالتفاصيل الإنسانية قد تم إحراقه. وهذا ما تأكد لي حين عدت إلى العراق بعد أكثر من أربعين عام فلم أجد فيلمي بين الأفلام بل وجدت كل الأفلام العراقية مدفونة تحت الأنقاض وهي جريمة من جرائم العصر ينبغي أبلاغ منظمة اليونسكو عنها.
عندما قام الدكتاتور بتجفيف الأهوار قام بتهجير السكان، فرماهم في مناطق مائية نائية على الحدود مع إيران وهي نهايات الأهوار، إذ لم يألف سكان الأهوار الحياة بدون ماء وبدون قصب ولا زوارق. كنت أحتفظ بنسخة من فيلمي «الأهوار» إذ وأنا أكمل العمليات الفنية في روما طبعت نسخة منه وأرسلته إلى بيروت حيث أقيم. ولكن بدخول الإسرائيليين وإحتلالهم العاصمة اللبنانية دخلوا السرداب حيث أحفظ أفلامي وأخرجوا صناديق الأفلام من السرداب ورحلوا بالأهوار معها نحو تل أبيب، وعبثا أستنجدت بالمنظمات الدولية!
قررت أن أبحث عن شخوص الفيلم. عندي نسخة (V.H.S) من الفيلم أخذتها وقررت عرضها أمامهم على الحدود مع إيران، ولاشك كبروا وماتوا وعاشوا. كنت أبحث عن مصائرهم واكتشف من فيهم بيننا على قيد الحياة فأرصد حياتهم من جديد وأربطها يوم صورتهم أطفالا. لكنني فوجئت بمنع السلطات الإيرانية من الوصول إليهم حيث هم يقيمون على مساحات مائية نائية فيما سمحوا للتلفزة الإسترالية بتصويرهم!
عدت إلى العراق بعد سقوط الدكتاتور الغبي (غير مأسوف عليه) وعثرت على نسخة قديمة من الفيلم أو بالأحرى أشتريتها! وهي نسخة شبه تالفة، أخذتها للترميم وعالجت ما أمكنني منها في اليونان.
حملت النسخة وذهبت إلى أهوار «الصحين» كنت أريد أن أعرض النسخة على من تبقى من شخوص الفيلم علي أعثر على بعضهم.
كنت أسير لأقرب ساحل يمكنني من صعود الزورق وأبحث عن السكان. لم أكن أدري بأن الأرض التي كنت أمشي فوقها هي مياه الأهوار.. بالصدفة مرت قافلة من الجمال!
عدت أدراجي خائبا حزينا مجروح المشاعر والوجدان.
عدت إلى هولندا.. وفي بحثي الدائم عن شخوص فيلمي عرفت شخصا كان يسكن ذات الأهوار ويقيم في النرويج!
مسكت طرف الخيط.. سألته عن الناس وكان الشخص يعرف الفيلم، فبدأنا رحلة البحث عن بعض شخصيات الفيلم.
بمن يا ترى أستنجد كي أصور من تبقى شخوص فيلمي فأحقق تأرخة نادرة؟
لا أحد!
ولا حتى قناة تلفزيونية واحدة من تلك التي تعرض انتهاك القيم في الحياة الإنسانية!
كبرت شخصيات الفيلم!
عرفت طبيب الأهوار الدكتور وجدي وعنده عيادة في بغداد، وطلبت هاتفه وحدثته
عرفت معلم المدرسة وهو يعيش على اليابسة إذ لم يعد ثمة ماء
وعرفت مدير المدرسة وهو يعيش على اليابسة إذ لم يعد ثمة ماء
وسمعت عن صبية جميلة صورتها في الدرس، وقيل تزوجت من أحد المسؤولين في السلطة
أغلب الطلاب إستشهدوا على جبهات القتال في الحرب مع إيران وفي حرب الخليج!
جاء في ملحمة «كلكامش» في الحوار الذي دار بين «أتونابشتم» الخالد و»كلكامش»الذي أفزعه موت صديقه «أنكيدو» فهام على وجهه بحثا عن الخلود:
«إن الموت قاس لا يرحم.
هل بنينا بيتا يقوم إلى الأبد؟
وهل ختمنا عقدا يدوم إلى الأبد؟
وهل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى إلى آخر الدهر؟
وهل تبقى البغضاء في الأرض إلى الأبد؟
وهل يرتفع النهر ويأتي بالفيضان على الدوام؟