د.علي القرني
عندما استشعرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية ومنها FBI وكذلك CIA بالخطر الكبير الذي كان يهدد أمنها واستقرارها في الثلاثينيات من القرن الميلادي الماضي بسبب الخطر الشيوعي الذي كان يستشري في جسد المجتمع الأمريكي.
وبخاصة الشباب الذين كانوا يرون في الفكر الماركسي بالتحديد منقذاً من الحياة الرأسمالية التي كانت تعاني من انتقادات واسعة جداً من مفكرين أوروبيين، وبدأ طلاب الجامعات وشرائح واسعة من الشباب تنجذب لمثل هذه الأفكار اليسارية الاشتراكية التي كان يدفع بها الاتحاد السوفيتي إلى العالم في العشرينيات والثلاثينيات على وجه الخصوص.. وشعرت أجهزة البحث والاستخبارات الأمريكية بخطر هذا الفكر الذي بدأ يغزو معاقل المؤسسات الرأسمالية بما فيها الجامعات الأمريكية.. وهذا ما جعل هذه المؤسسات الاستخباراتية تتجه إلى الجامعات للبحث عن حلول لأزمات كبرى يعاني منها المجتمع.
كانت الجامعة هي الوجهة الطبيعية لأجهزة الاستخبارات الأمريكية في البحث عن حلول لمخاطر كبرى تهدد أمن واستقرار وبقاء المجتمع الأمريكي، وهذا أمر طبيعي أن تكون الجامعة هي المكان المناسب للبحث والتقصي في قضايا وهموم ومشاكل وأزمات المجتمع.. هذه حقيقة مهمة يجب أن تكون هي واضحة لمختلف المؤسسات السياسية والأمنية والمجتمعية.. والحقيقة الأخرى المهمة أن الاتجاه الذي اتجهته المؤسسات الاستخباراتية الأمريكية هو إلى التخصصات الإنسانية، ولم تتجه إلى كليات علمية أو طبية، بمعنى أن الحقول العلمية التي تُعنى بالإنسان كفكر وسلوك ومجتمع هي تلك التخصصات التي يجب أن نتجه إليها لدراسة مشاكلنا المجتمعية ووضع الحلول لها.. وهذا ما جعل أجهزة الاستخبارات الأمريكية تستعين بباحثين في علم ودراسات المجتمع، وكان تالكوت بارسونز أستاذ علم الاجتماع بجامعة هارفارد هو خيارهم - إلى جانب باحثين آخرين - لأن يفكر لهم في حلول لمواجهة أزمة المجتمع الرأسمالي النابعة من فكر يساري بدأ يتغلغل في فكر الشباب الأمريكي.. وبارسونز كان خياراً موفقاً لأنه درس الدكتوراه في أوروبا وتحديداً في كلية الاقتصاد بلندن وجمع بين الاقتصاد والمجتمع، إضافة إلى استيعابه للحركة الأوروبية الفلسفية التي أثّرت على مجريات الشأن الأوربي، وظهر في أوروبا علماء ومفكرون مثل كارل ماركس وماكس فيبر وإيميل دوركايم وغيرهم من الأتباع والموالين، استطاعوا أن يكتبوا التاريخ الأوروبي، بل يصنعونه بمقولاتهم الفلسفية التي وجدت لها صدى بالغاً وتأثيراً كبيراً.
وكان المنطلق الذي بدأ به تالكوت بارسونز هو أن النظرية الماركسية التي أخذت تهيمن على الفكر الغربي بجامعاته وباحثيه وأساتذته وطلابه يجب أن يكون الحل الإستراتيجي لمواجهتها ليس انتقاد النظرية الماركسية بتدرجاتها الشيوعية والاشتراكية والفكر اليساري بالإجمال فحسب، ولكن يجب أن يكون الحل هو إيجاد بديل باستحداث نظرية جديدة أو تطوير نظرية قائمة أو دمج نظريات مع بعضها البعض حتى تخرج نظرية جديدة.. وهذا ما جعل بارسونز يعمل ويبني النظرية الوظيفية التي استطاع أن يشغل بها الرأي العام الفكري في الجامعات ليس فقط الأمريكية بل الغربية ولعقود طويلة وإلى اليوم وغداً.. لقد كانت النظرية الماركسية مبنية على أساس التغيير أو تحديداً تغيير النظام، بينما ركزت النظرية الوظيفية على أساس أن المجتمع عبارة عن كيان عضوي يشتمل على وظائف، ويمكن أن يحدث خللاً في وظيفة من الوظائف، ولكن سرعان ما يتم تكييف الكيان العضوي لمواجهة هذا الخلل وبناء ميكانزمات دفاع تقوم باحتواء الخلل ومواجهة تبعاته.
وما يدور حالياً في منطقة الشرق الأوسط، بل في أوساط أكبر نطاقاً على مستوى العالم هو فكر بدأ يغزو فكر وعقول عدد من الشباب العربي والغربي على السواء، وبدأ يستهدف هذه العقول بهدف التأثير عليها وتوجيهها إلى أهداف التنظيمات المتطرفة وفي مقدمتها تنظيم داعش الذي أخذ يسرق الأضواء من باقي التنظيمات الإرهابية الأخرى.. وخلال الفترة الماضية كنا نقرأ ونسمع ونرى الكثير من الأعمال التي كانت تستهدف داعش في محاولة للشجب أو التنديد أو السخرية منها، ولكن هذه الأعمال لم تكن مدروسة وجاءت بنتائج عكسية في بعض تلك الأعمال، وكانت الأعمال الدرامية التي قدمها مسلسل «سيلفي» من mbc جيدة في هدفها ولكن سلبية في نتائجها، وخلقت مناخات تتعارض مع الأهداف النبيلة التي كان يسعى إليها الفنان القدير ناصر القصبي.. ويبدو أن عامل الكوميديا كان هو العامل الأساسي الطاغي على مخرجات العمل الفني دون استيعاب للفكر العلمي المتخصص الذي يفترض أن يكون حاضراً برأي متخصصين من علوم الاجتماع والنفس والإعلام في هكذا أعمال. وهذا هو مجال نقاشنا في المقال القادم - إن شاء الله - من خلال توضيح غياب أي إستراتيجية إعلامية لمواجهة الفكر والمظاهر الداعشية في مجتمعنا، وأن جهود المواجهة مثل «سيلفي» وغيرها مجرد أعمال واجتهادات ناقصة تحتاج إلى الكثير من البحث والدراسة والتفكير المتعمِّق والرأي المتخصص.. والكثير من هذه الأعمال جاءت بنتائج كارثية على صعيد المواجهة.
..... يتبع.