د. محمد عبدالله العوين
عاد الشاب الأمير النابه سعود الفيصل بن عبد العزيز إلى المملكة بعد أن نال شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة برنستون بولاية نيوجرسي بالولايات المتحدة الأمريكية وعمره ثلاثة وعشرون عاما، والتحق بوزارة البترول والثروة المعدنية ثم تدرج في وظائفها لمدة اثني عشر عاماً؛ من 1383هـ إلى 1395هـ وكان آخر منصب له بوزارة البترول وكيلا لها.
أي أن الأمير سعود -رحمه الله- اكتسب الخبرات الإدارية والسياسية الأولى في العمل الحكومي من تلك السنوات التي قضاها بين أعمالها التي لا يمكن أن تصنف على أنها اقتصادية خالصة بمقدار ما تحمله أيضا بين طيات ملفاتها من تداخل كبير مع المواقف السياسية والأزمات التي مرت بها المنطقة العربية؛ ومنها -مثلا- أزمة حرب رمضان 1393هـ الموافق أكتوبر 1973م حيث اتخذ والده الملك فيصل -رحمه الله- قراره العربي الإسلامي الكبير بوقف ضخ البترول إلى أمريكا والدول الأوربية المؤيدة لإسرائيل في حربها مع العرب.
تربى الأمير سعود في الحضن السياسي، ونشأ في بيت صناعة القرارات السياسية، وتلقى علومه الأولى غير المنهجية من والده الذي كان مدرسة في القيادة والقوة والحكمة والدهاء وإدارة أصعب المواقف التي مرت بها المملكة والوطن العربي؛ ولعل نشأته في بيت الأسرة المالكة السعودية الكريمة وبالقرب من المجالس الثرية بالحوار والنقاش في أدق التفاصيل السياسية على المستويات المحلية والخارجية؛ لعل ذلك كان المكون الحقيقي لشخصية الأمير سعود الذي اتكأ عليه ليواصل نضجه الذاتي لا حقا بما اكتسبه في رحلته العلمية والعملية، وبما ناله من ثقافة واسعة من خلال اطلاعه وشغفه بالمعرفة وإجادته ست لغات غير لغته العربية الأم؛ وهي: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والأسبانية والعبرية.
وبعد أن توفي الملك فيصل -رحمه الله- في 13ربيع الأول 1395هـ عين الأمير سعود وزيرا للخارجية ليحل محل والده الذي كان يشغل هذا المنصب بالإضافة إلى كونه ملكاً، وقد تم في عهد الملك خالد بن عبد العزيز -رحمه الله- تشكيل وزاري جديد سمي بوزارة الشباب؛ لأن ذلك التشكيل اعتمد في اختياراته على الجيل الجديد من الشباب الأكاديمي والمثقف وحملة الشهادات العليا، حتى أسمى بعضهم ذلك بوزارة الدكاترة؛ الذين كان منهم الدكاترة: غازي القصيبي ومحمد عبده يماني وعبد العزيز الخويطر -رحمهم الله- وسليمان السليم وحسين الجزائري وعبد الرحمن بن عبد العزيز آل الشيخ وعلوي درويش كيال.
قاد الأمير سعود الفيصل الدبلوماسية السعودية خلال أربعين عاماً في مراحل مرت بها المملكة والمنطقة العربية هي الأشد والأعنف والأكثر خطورة في التحولات السياسية الدراماتيكية؛ حيث شارك قادة البلاد في حمل رسالة المملكة إلى العالم وإبانة مواقفها والدفاع عن مبادئها وإيضاح رؤاها في كل القضايا والأزمات العاصفة؛ بدءاً بقضية فلسطين، وليس انتهاء بحالة الفوضى التي تمر بلدان العرب الآن أو النووي الإيراني الذي تستقوي به إيران على الأمة العربية.
خلال العقود الأربعة عايش بعمق وشفافية وثقة ملفات سياسية عويصة تحمل من الألاعيب الدولية والمكاسب المتغياة على حساب دول المنطقة ما لا تفصح عن كثير منه وسائل الإعلام؛ فكان الفارس الوطني العربي الشهم والنبيل المدافع عن سمعة المملكة ومواقفها والذاب عن حياض الأمة العربية بشجاعة وبسالة وثقة نادرة في كل المحافل الدولية؛ فهو رجل المنابر، وهو المحاور الذكي وهو المتحدث الدبلوماسي اللبق، وهو الشديد القوي حين تجب الشدة واللين اللطيف حين يكون للطف موضع.
ولا يمكن أن تنسى مواقفه الصارمة التي لم يغلفها برقة الخطاب الدبلوماسي؛ بل أطلقها صريحة مبينا موقف بلادنا الواضح، فرأى أن ما فعلته أمريكا في العراق احتلال، وأن حلها الجيش العراقي يمهد لإدخاله في حالة فوضى، وأن تمكين إيران من العراق هو أيضا احتلال ثان، وأن لا حل للقضية الفلسطينية دون إنصاف الشعب الفلسطيني بعودته إلى أرضه التي احتلت بعد 1967م والتعايش بين دولتين، وأن من حق دول المنطقة أن تملك سلاح ردع نووي متساوية مع إسرائيل وإيران.
وأرجو أن تكتب سيرة الأمير سعود الفيصل الغنية بالوثائق والملفات؛ فهي جزء مهم من تاريخ المملكة والعالم. رحمه الله وغفر له.