د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وإن جميع فرائض الإسلام, إذا حرص المرء فيها على معرفة الحلال من الحرام: بأن حرص على الحلال فألزم نفسه به؛ لأنه هو المنهج السليم الذي
وجهه دينه إليه, ورُغِّب فيه بالاندفاع إليه: بأمر يجب احترامه لقدسية مصدره, فإنه بذلك يجد الفضيلة التي تتوق إليها النفوس, ويرتاح للعمل الذي يتفق مع الفطرة.
والنصوص الشرعية التي توضح الحلال من الحرام, فترغّب في الحلال وتجازي عليه, وتنهى عن الحرام الذي يمثل الشر وآثاره, فتعاقب عليه, وعلى فعله, هي زواجر وحدود, تقوي الرقابة بالوقوف عند النص واتّباعه في الحلال, والتبصر في دلالته, والابتعاد عما حذر منه من حرام... ذلك أن الحرام هو كل ما فيه ضرر بالنفس أو المجتمع, سواء أدرك الإنسان النتيجة, أو خفي السر عنه.
فما أكثر التوجيه القرآني الكريم للنفس البشرية, حتى تستعمل العقل في التبصر, وحتى تدرك ما تدل عليه الحواسُ التي وهبها الله للإنسان, فتمّيز الخير من الشر, والنافع من الضار؛ لأن الإنسان سوف يحاسب على سرائر أعماله وظواهرها, ولأن كل ما يعمله محصىً عليه, ومرصود في سجل أعماله كما قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (49) سورة الكهف.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكث في مكة المكرمة 13 عامًا, يرسخ في الناس القاعدة الأساسية التي عليها مدار الأمور؛ لأن سلامة الجوهر في صفاء العقيدة, وصحة الأعمال في صدق المأخذ, وترسيخ قاعدة الإسلام التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة تزيد عن 56% من مدة مكثه صلى الله عليه وسلم يبلغ رسالة ربه, كانت في تأصيل الوحدانية مع الله: لا إله إلا الله, محمد رسول الله.. التي هي أول أركان الإسلام, وتأكيد حقّها على الفرد المسلم؛ لأن هذه الكلمة, إذا تمكنت من النفوس فهمًا وعملاً, وسيطرت على الأحاسيس إدراكًا وتشبّعًا, كانت حِصنًا منيعًا يحمي الله به النفوس، من مسارب الشرور والآفات, ويقف عُمقُ معناها دون الانحدار إلى الرذيلة والاستسلام للجريمة.
فمن أدرك هذه الدلالة لا بد أن يحافظ على شعائر دينه, كما أمر الله: من صلاة وزكاة, وصوم وحج, وإيمان بالله, ووقوف عند حدوده التي أبانها لعباده سبحانه وبحمده.
وكل أمر تشريعي في الإسلام, يلمس منه المستقرئ تحليلاً يقي النفس, أو المجتمع ضررًا تبين نتائجه, بمعرفة المداخل عليه.
- فشهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله: يعطي مفهومها إدراك حقيقة الوحدانية مع الله, فتمنح النفس البشرية رقابة تحجز عن الوقوع فيما يناقضها, فلا يصرف العمل لغير الله, ولا يعبد بحق إلا الله, ولا يشرك معه غيره, فيما لا يصح صرفه إلا له سبحانه, كالدعاء والذبح والخوف والرجاء وغير ذلك من أنواع العبادات, كما قال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (18) سورة الجن.
فمشاركة المخلوق للخالق في العمل المصروف, ينفي تحقيق الوحدة لله جلّ وعلا, كما جاء في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
والتشريك مع الله في العبادة شرك حذّر الله منه, وجعل له البارئ جل وعلا أشد العقوبات, كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (48) سورة النساء.
والرقابة الذاتية في المحافظة على النفس, من إدراك دلالة كلمة الوحدانية مع الله سبحانه, والعمل بمقتضاها, واليقين بما تدل عليه, والصدق والمحبة في ذلك, وأنه الإله الحق ومصرّف الأمور, خالق الخلق, وكافل أرزاقهم, فلا يجوز أن تتعلق القلوب إلا به, ولا تنقاد الجوارح إلا لشرعه, الذي شرع لعباده, مع القناعة بأن ما جاء من عند الله, فهو المصلح لمعاشهم, والمُسعِد لهم في معادهم، وأن على الخلق الامتثال له, إذا كانوا يريدون السعادة والفوز, والخلاص من كل مشكلة.
وإن من مهمات الوقاية العقدية, قناعة النفس بأن محمدًا هو آخر رسل الله, وأن الديانة التي جاء بها من عند الله هي الديانة الحق, الذي لا يقبل الله من البشر سواه, فهو رسول الله يقينًا, نشهد أنه قد أدىّ الأمانة, وبلّغ الرسالة, ونصح للأمة, وجاهد في الله حق جهاده.
فاليقين بذلك عصمة للنفس من إتباع الطرق المتشعّبة, أو اللجوء إلى تحكيم القوانين الوضعية؛ لأن في رسالته صلى الله عليه وسلم, وتبليغه ما أوحي إليه: غنىً عن كل بديل, وضعته الأمم التي لم تؤمن بذلك, ولم تمتثل لشرع الله الذي شرع لعباده, أو ترضى به دستورًا في تصريف شئون حياتها.
ورقابة النفس في ذلك, مما يطرد الوساوس, ويقضي على التشكيك والرياء في الأعمال؛ إذ سوف تحرص بما تشبّعت به على أداء حق هذا الإحساس الوجداني بالمتابعة, والابتعاد عمّا ينافي مدلول كلمة الإخلاص.
ومما يعطي أهمية في تربية النفس وللاهتمام في تنقية الأعمال والمكاسب، والبعد عما فيه إضرار بالنفس أو المجتمع ممّا حذر منه التشريع, وفي مقدمة ذلك الجريمة.
فالنظام في الأوقات, والتّهيؤ للصلاة, والتقيد بعدد الركعات المفروضة دون زيادة أو نقص, حيث المسلم هو المراقب لنفسه في ذلك، عن كيفية صلاته بحسن الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فهو صلى الله عليه وسلم شرّع للأمة, ويبلغ عن الله؛ ذلك أن الصلاة خضوع أمام الله, واستجابة لأمره؛ ولذا كانت من أعظم العبادات المهذبة للطباع, والناهية عن المنكر, والرّادعة عن طرق الغواية, كما قال جل وعلا: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (45) سورة العنكبوت.
وإدراك حقيقتها, واستحضار القلب عند أدائها, ثم أخذها سلاحًا تحارِبُ به النّفسُ الشرور المحيطة, والآثام المتسلطة, ومنها الجريمة التي لا تتحرك في النفس, إلا من مدخل ضعف, جاء من الإخلال بفرضية الصلاة, ونقص في مراقبة ما يجب أن تنتهي عنه النفس, من أمور تتباين مع منزلة الصلاة, ودورها في حماية النفس, ووقاية المجتمع من كل ما يضرّ به, فعن ابن مسعود رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يطع الصلاة). قال ابن كثير: وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر, قال سفيان: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك). قال: فقال سفيان: إي والله تأمره وتنهاه. تفسير ابن كثير 3: 414.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن فلاناً يصلي بالليل, فإذا أصبح سرق, فقال: إنه سينهاه ما تقول). المصدر نفسه ص 415.
ولما كان القلب كما يقال: هو ملك الجوارح, والمسيطر على أفعالها وتوجهها, فإن القلب الخاشع في الصلاة, هو الذي يتشبّع بدلالة الآية, وهو الذي يعطي الرقابة للمفهوم الوقائي، عن كل منكر وفاحشة, والجريمة من ذلك, سواء كان مردودها على الفرد, أو بان أثرها في المجتمع.