د. عبدالرحمن الشلاش
عبارة «دق ألماني» اشتهرت في الزمن الماضي وتداولها جيل الآباء والأجداد، إذ كانوا يصفون أي شيء متقن الصنع والجودة بأنه «دق ألماني». أصل هذا الوصف أنّ أي آلات أو مصنوعات واردة من ألمانيا في ذلك الوقت كان يكتب عليها عبارة محفورة وثابتة «صنع في ألمانيا». علامة الجودة الألمانية كانت تظهر في صناعاتهم من سيارات وآليات ومكائن، صحيح أنها كانت غالية الثمن، لكنها تتميز بالجودة الفائقة والمتانة إذ تعيش سنوات طويلة، يعني ما كان يدفع فيها من مبالغ «حلال ونص»، أو مثل ما كان يقولون «كد ومد».
الزائر لألمانيا سيلمس بنفسه صدق هذه العبارة في كل مناحي الحياة هنا في ألمانيا في مدنها الصغيرة والكبيرة، سيجد أنهم وبقدراتهم الفريدة على الصناعة والتنظيم يحولون الأشياء البسيطة إلى أشياء ذات قيمة، وفي مسألة التنظيم المادي حكايات فريدة وأمثلة من الواقع الألماني تترك صوراً معبرة للآخرين كي يقتدوا بها في ديارهم إن هم أحسنوا قراءتها ثم تمثلها وتطبيقها . ستجد في التجربة الألمانية تفرداً ليس في التخطيط والتنظيم والصناعة فحسب، وإنما حتى في الاقتصاد والبراعة في الصناعات التحويلية فلا يوجد شيء للرمي والإتلاف وإنما لإعادة التصنيع، ولا مساحة للهدر والتبذير.
أمن وسلامة ألمانيا ومصلحتها الاقتصادية من أي قادم للإقامة فيها أو الزيارة أو العبور في المرتبة الأولى، فتأشيرة الدخول لا تحصل عليها إلا بعد أن تقدم لهم ضمانات عبر حجوزات مؤكدة في فنادق أو شقق، وحين وصولك المطار وعند بوابة الطائرة وقبل أن تضع قدمك على أرض ألمانيا يطلب منك الموظف جواز السفر لمطابقة الصورة على الأصل ثم التأكد من صحة التأشيرة، وعندما تنتقل إلى صالة المطار تنتظم في صف طويل لكنه سريع جداً، إذ لا تحتاج إلا لبضع دقائق كي تقف أمام ضابط الجوازات والذي يبادر بسؤالك عن هدفك من الزيارة ومدة إقامتك، ثم يطلب منك حجوزات الإقامة قبل أن يدمغ جوازك بختم الدخول . في صالة القدوم تحتاج لوضع يورو واحد في الآلة كي تحصل على عربة لحمل عفشك بنفسك فلا تنتظر في ألمانيا من يقدم لك خدمة مجانية، وتقريباً تختفي في مطاراتها مظاهر العمالة الذين يلاحقون القادمين لحمل العفش ويتسببون في التزاحم والتدافع، وحتى عند وصولك للفندق تضطر غالباً لحمل حقائبك بنفسك لتتخلى عن بعض مظاهر البذخ الذي تعيشه في بلدك، وتتنازل عن طاووسيتك المصطنعة.
خذ مثلاً وإن شئت أمثلة على قدرة ألمانيا في تدريب مواطنيها على الاقتصاد بعدم الإسراف والتبذير، فقارورة «ماء الصحة» حال فراغك من شراب الماء تضعها في حاوية لتحصل على ثمنها فوراً بضع سنتات، وإذا أردت الشراء من محلات التموينات الكبيرة عليك شراء أكياس كافية لوضع ما تشتريه بداخلها ثم تحتفظ بها للمرات القادمة، وبعض الناس هنا في ألمانيا يخصصون شنطاً لوضع الأغراض فيها. دورات المياه في الأماكن العامة رسم الدخول لها بمبلغ يورو لكنها مريحة بنظافتها الدائمة، وفي الممرات في أكثر البنايات تظل الأنوار مطفأة وعند عبور أي شخص تضاء المصابيح تلقائياً.
عندما تشاهد مثل هذه التطبيقات الحياتية وغيرها في بلاد الغرب، تتمنى أنها في وطنك حتى ولو كلفتك بعضاً من المال.