د. حسن بن فهد الهويمل
دخلْت عالم السياسة دون استخارة، ودون استشارة، وفي ظني أنها نزهة ممتعة، وأنّ المبارحة بيدي، متى شئت، وأين شئت. وكيف شئت. غير أنّ حساباتي كانت خاطئة.
عالم السياسة عالم أدغال موحشة، ومفازات مضلَّة. مليئة بالسباع، والهوام، ورؤوس الشياطين.
إنها [فن الممكن]. ومن ثم فداخلها مفقود، وخارجها مولود.
يُقَدِّر العقلاء، ما يودون فعله، فتضحك شياطينها. فكل خائض في أوحالها يصاب بدوار البحر.
وهي فيما هي عليه جذابة خلابة، لها ضراوتها، كما الخمر، والميسر، والمضاربة بالأسهم. مع الفارق في الحل، والحرمة.
والذين يدرسون العلوم السياسية في الجامعات، ثم يخوضون معتركها على الطبيعة، يظنون أنهم أبناء بجدتها. وأنهم الأقدر على إدارة أزماتها.
والحقيقة أنها تخاتلهم، وتخادعهم، وتملي لهم، وتكيد.
وكل دراسة نظرية في أي حقل معرفي، تتضاءل أمام أي ممارسة عملية. وهي في عالم السياسة أشد، وأعتى!.
قد يعرف الدارسون قواعد اللعب السياسية، ومقدمات الأشياء، وشيئاً من لغة التفاوض. وقد تصقلهم التجارب، وتكشف لهم ما لم يكن عندهم في الحسبان.
وقد لا يكونون أذكياء، ولا عقلاء، ومن ثم لا يحسنون تصريف ما يتوفرون عليه من أبجديات العلم السياسي.
السياسة عالم مفتوح على كل الاحتمالات. ومن تصورها قريبة المنال، موطأة الأكناف، ظاهرة المعالم، أخذته على غرة، فدمرته، ودمرت به.
ورهانات أساطينها على تلك الطرائق خاسرة، لأنها لا تكشف لك عن دواخلها.
إنها فتنة، يجهلها الكل عند إقبالها. ويعرفون الأقل منها عند إدبارها، وتظل مفازة يحار فيها القطا.
السياسة شئنا، أم أبينا حاضرةٌ في كل لحظة. فاعلةٌ في كل شأن.
وما من أزمة قاتلة إلا وللسياسة يد فيها. والحكَّامُ بوصفهم مفاتيحها، هم مصدر المشاكل، أو بواعث الخير، والمعنيون بها يدركون أنهم كالضاربين بالحصى، والشاعر يقول:
[لَعَمْرك ما تَدْري الضَّواربُ بالحصى
ولاَ زاجِراتُ الطَّيْر مَا اللهُ صَانِعُ]
الخليقةُ التي تنساب كالخدر في مفاصل أذهاننَا، وتمكن للعبة المتبرجة، لتمر من بين أيدينا، دون استيقاف، أو مساءلة، داءٌ عضالٌ، وقف عندها المفكر الإسلامي [مالك بن نبي] - رحمه الله - وحولها من صفة إلى مصطلح.
إنها [القابلية للاستعمار]، وذلك الاستنتاج الذكي، يؤيده المثل [الإنجليزي]: [أنت لا تكون عبداً إلا بموافقتك]، وشاهد ذلك [زنوج أمريكا] قاوموا من أجل الحرية، حتى دخلوا [البيت الأبيض].
الأغرب أن كبار المفكرين، وأساطين السياسة، لا يعيرون هذه الصفة بالاً، ولا يقيمون لها وزناً. ولو أنهم أخذوها من أطرافها بوعي، لكان خيراً لهم، ولأمتهم.
[القابلية للاستعمار ] تُعمي، وتُصم، وتعطل القدرات، وتمرر اللعب المكشوفة، مثلما يفعل السحرة، والمشعوذون. يضعون على العيون غشاوة، وفي الآذان وقراً، فتمر اللعب آمنة مطمئنة، والناس في سكراتهم يعمهون.
توصف [المملكة العربية السعودية] بالعمالة، والرجعية، والوهابية، والتخلف، وتتهم بإفساد الإسلام. فيبتدر هذه الأكاذيب شياطين الإنس ومُغفَّلوهم، ويأخذونها مأخذ الجد. وكأنه الصدق الذي لا معقب له، ويَقْبل المغفلون بهذا التخويف، ويتداولونه فيما بينهم، في محاولة لتصحيح الصورة.
حتى الذين يمارسون النخاسة على قدراتهم الفكرية، وشهرتهم العالمية كـ [روجيه جارودي] و[ فهمي هويدي] لا يتحرجون من ترويج منكر القول، وزوره.
هذه المفتريات تلتبس على المتاجرين بقدراتهم، والذين أصيبوا بداء القابلية للاستعمار، على الرغم من أنهم يَرَوْن نقيض الأقوال الزائفة أعمالاً ماثلة للعيان، لا ينكر وجوده عاقل رشيد. ذلكم مثل يؤكد الغباء، والمكر، والقابلية.
يَحُجُّ بعض أولئك، أو يعتمرون، فيرون بيت الله، ومثوى الجسد الطاهر، وقد طُهِّرا من خرافة التصوف، ورجس والتشيع، وتعصب المذاهب كافة: سلفية كانت، أو سنّية. ووفر فيهما الأمن، والاستقرار، والرخاء. وهيئت الأسواق، والمساكن، والمطاعم، وصينت الأموال، والأنفس، والأعراض. وأعدت وسائل النقل الآمن المريح بين المشاعر، والمدن. وأنفقت المليارات للتوسعة، ومثلها لكافة الخدمات.
وتأتي العمالة جائعة، عارية، جاهلة، وقد باعت كل ما تملك، واستدانت ما ينقصها لتجد الفرصة الذهبية، لدخول المملكة، فتملأ بطونها، وجيوبها، وتنعم بخيرات البلاد. ولا تجد تفرقة، ولا طائفية.
أسواق المملكة، ومساكن أهلها مليئة بالنصارى، والبوذيين، والسيخ، والهندوس، والنصيريين، والشيعة، والدروز، والمتصوفة، لا يُسأل أحد عن عقيدته، ولا يضايق أحد على دينه.
والسلطات الأمنية، والمحاكم الشرعية، تطارد المتعدي من السنّة، والسلفية، كما تطارد غيرهم، حتى تأخذ الحق منه، وحتى توفر للمُعاهِد ما يَتَوفر لكل مواطن.
ويتهافت رجال الأعمال، وأصحاب الشركات العالمية على أسواق المملكة، ليظفروا بموطىء قدم، ويعودوا إلى بلادهم بجر الحقائب.
وتصاب الدول الشقيقة، والصديقة بالكوارث، أو بانهيار الاقتصاد، أو بالوباء، أو بالاعتداء، فتجد المملكة سبّاقة إلى الدعم، والمساندة.
وتكشف المؤامرات، والاعتداءات، واللعب السياسية، ثم لا يكون للمملكة يد، ولا تأييد.
ودعك من المواطن، وما يتوفر له، من أمن، واستقرار، ورخاء، وتعليم، وعلاج، وضمان لحريته الشخصية والتجارية.
ومع كل ذلك فالمملكة لا تفتأ تمارس الدفاع عن سمعتها باللسان، والسنان، وتدفع بالتي هي أحس. تحل أعقد المشاكل بالدرهم، والدينار، فيما يحسمها غيرها بالصواريخ، والمتفجرات، والراجمات، وغياهب السجون.
أليست هذه الغشاوة ناتج لعب قذرة، ومؤامرات خبيثة، وغزو مكشوف للعقول قبل الحقول.
إنها في النهاية [القابلية للاستعمار].