د. فوزية البكر
يشكل الطلاب السعوديون المرتبة الثانية بعد الطلاب الصينيين (بالنسبة لأعداد السكان) من حيث نسب الابتعاث في الولايات المتحدة, حيث بلغت أعدادهم حتى قبل شهر من الآن كما أعلن حوالي المائة ألف ويرتفع العدد إلى أكثر من مائة وخمسون ألف مبتعث ومبتعثة في أقطار عديدة منها بريطانيا وكندا وبعض الدول الآسيوية كماليزيا وسنغافورة واليابان وقليل من الدول العربية.
ومنذ ظهور الدولة السعودية الحديثة وبدء الاستثمار في النفط كسلعة اقتصادية أساسية مع ارتفاع أسعاره اعتمدت المملكة نظام البعثات لتزويدها وإمداد القطاع الخاص بما يحتاج من القدرات البشرية السعودية المدربة في مختلف المجالات تم هذا منذ عهد المغفور له الملك سعود واستمر في العهود السعودية التالية حتى يومنا الحاضر بوتيرة غير متجانسة في نسب الابتعاث وحجمه بين النساء والرجال حسب الحالة السياسية والثقافية للمملكة فحين كانت الهجمة الدينية المتشددة على أشدها في بداية الثمانينات بعد جهيمان وحرب الخليج الثانية تم لجم حجام الابتعاث وتوقفت كلية بعثات النساء ليعود الابتعاث بقوة غير مسبوقة منذ تولي الملك عبدالله رحمه الله الحكم عام 2014 من خلال برنامج الابتعاث الذي وصل عام 2014 إلى مرحلته العاشرة وهو الآن يعد العدة لمرحلته التالية مع بداية العام الدراسي. هذا البرنامج مثلا منح أكثر من 38 ألف امرأة من مختلف الشرائح الاجتماعية الفرصة للدراسة والمعايشة لواقع اجتماعي وثقافي يختلف كلية عن ما يعشنه وهو الأمر الذي خلق هذه الطاقات العلمية والأدبية والفنية التي تملأ مؤسساتنا العامة والخاصة. تحدثت عن النساء خصوصا لأن ما يصنعه الابتعاث في تغيير واقعهن المهني والمعيشي أكبر بكثير مما يمكن تصوره لكن الأمر نفسه يعد صحيحا بالنسبة للمجتمع السعودي ككل والذي غير الابتعاث حياته كلها وأجمل ما في الابتعاث أنك لا تطل علي أي منزل تقريبا وفي أي بقعة من المملكة إلا وتجد مبتعثا أو مبتعثة. لم يكن الأمر قاصرا على من والده في الوزارة أو عمه رجل أعمال معروف أو أسرة ميسورة ذات شأن في السلم الحكومي. الجميع على اختلاف أطيافهم وطبقاتهم ومناطقهم ومشاربهم نالتهم منحة الابتعاث فغيرت مجري حياتهم إلى الأبد.
هذه هي أهمية قضية الابتعاث وحيويتها لكل فرد متنور يمتلك حبا ورؤيا إستراتيجية مستقبلية لهذا البلد ونحن جميعا ضمن هذا السياق: نقلة علمية وثقافية تمنح الطالب والطالبة ومن معهم من أفراد الأسرة إلى عالم جديد في كل شيء بدءا بالشكل والأكل وانتهاء بأساليب الدراسة والمعيشة والعلاقات الإنسانية. ليس من الضروري أن نقبل أو نتفهم ما يفعله الآخرون في مجتمعات الابتعاث ولكن من المهم أن نتعود على قبوله وفهم الأسس الثقافية والاقتصادية التي بني عليها.
الابتعاث ليس حول طالب أو طالبة، إنه عالم كامل من التعلم والتجربة الثقافية والتعليمية والحضارية التي سنقطف ثمارها في القريب العاجل بعشرات من الآلاف من الطلبة الذين تم تهيئتهم علميا وثقافيا للعيش ضمن منظورة العالم الجديد. هل كل الطلبة ناجحون وقادرون على التأقلم مع بيئاتهم الجديدة؟ ليس بالضرورة فالعديد منهم لن يتمكن من التوافق دراسيا أوقد يقع أسير بعض المغريات الضارة كالمخدرات أو الكحول أو أنه ببساطة لن يتمكن من تحقيق الحد الأدنى من المتطلبات الدراسية بسبب اللغة أو لاختلاف أساليب التعليم ومتطلباته. هذا متوقع لكن تظل الأعداد محدودة ونسبها مقبولة إحصائيا بحيث لا يمكن التعميم كما يفعل بعض من يمتلكون موقفا رافضا لفكرة الابتعاث بالتركيز على صغر سن بعض المبتعثين وعدم تهيئتهم ومن ثم خسارة ما يصرف عليهم. هذا الكلام ليس صحيحا بالضرورة بالنسبة لمعظم صغار السن من المبتعثين وخاصة الفتيات اللاتي اجزم من مشاهداتي وتواصلي مع بعضهن تفوقهن العلمي وتركيزهن على دراستهن لعلمهن أن التحديات أمامهن أقوى من المبتعث الذكر. نعم حجم الطلبة كبير جدا وخاصة في الولايات المتحدة التي لا شك أن الملحقية التعليمية فيها تئن من شدة ضغط العمل لمتابعة وإنجاز معاملات هذا العدد الهائل لكن وبشهادة الكثير من الطلاب فالملحقية التعليمية في العادة لا تألوا جهدا لتحقيق رغبات الطلاب ومتابعة احتياجاتهم والرفق بهم وإرشادهم وحتى لو لم يكتب الله لهم نصيبا في إكمال دراستهم لسبب أو لآخر فيكفي أنهم عاشوا جزءا من التجربة الاجتماعية والثقافية والعلمية المختلفة التي تجعلهم وأبناءهم يتفكرون ويتعرفون على عالم كانوا يقرؤون عنه لكن لم يواجهوا تحدياته في المعيشة اليومية واللغة ونظام السير وطريقة التدريس وهو ما يمثل تغييرا ثقافيا وانفتاحا على الآخر ومحاولة للتعايش وهي خبرات ليست سهلة وخاصة لثقافات مغلقة مثل ثقافتنا.
أطرح موضوع الابتعاث تحديدا لما ناله من لغط وجدل مؤخرا بحيث ارتبكت أحوال الكثير من المبتعثين وخاصة أولئك الذين ذهبوا على حسابهم الخاص أملاً في إلحاقهم في الابتعاث بعد إثبات تسجيلهم للمقررات في مرحلتهم الدراسية أو من أولئك الذين أنهوا الثانوية ويأملون أن يطالهم من الحظ ما طال من سبقهم بحيث يدرسون الجامعة أو دراساتهم العليا في الخارج.
لا أمتلك أية واسطة تقربني من الوزارة ولا علم لي بدخائل الأمور حيث يصنع القرار ولكني أومن بالحكومة الشابة التي يحاول مليكنا سلمان أمد الله بعمره أن يهندس لبناء هذه الأمة كما أعرف أن وراءه رجال مخلصون على رأسهم ولي العهد الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد الأمير الشاب محمد بن سلمان واللذين يعملان ليل نهار لدفع الشر عن هذه الأمة وهندسة واقعها المدني والسياسي والأمني بما يحميها من الباغين ويرفعها حضاريا وثقافيا إلى الأمام والابتعاث بلا أدنى شك هو أحد الأسلحة الرئيسية في هذا البناء الحضاري وهو ورغم تكلفته إلا أنه من المشاريع الحضارية التي تستحق أن يصرف عليها خاصة والمملكة ومنذ إنشائها وحتى الآن قد تفوقت على معظم الدول النامية من خلال تخصيص ما يقرب من ربع ميزانيتها السنوية للتعليم وهو ما رفع نسب الإلحاق مثلا للمرحلة الابتدائية إلى أكثر من 97% بمعنى أن 97% من الأطفال ممن هم في سن الدراسة الابتدائية ذكورا وإناثا ملتحقون بالمدرسة فعلا مما يعني القضاء على الأمية تماما في المملكة خلال جيل واحد بإذن الله.
الابتعاث نعمة كبرى أمدنا الله بالقوة على تمويلها من خلال دخلنا القوي وميزانياتنا الممتازة والحمد والشكر لمن أطلق قوة هذه اليابسة لتتفجر نعيما دافقا مكننا من العيش الرغيد فلننعم على الأجيال القادمة ولنقدم لها الغذاء اللازم بالعلم المتميز والمعرفة التي مهما قلنا فستظل متميزة في جامعات الغرب مقارنة بجامعاتنا المحلية.
طلابنا وخاصة أولئك الدارسون على حسابهم الخاص وكذا كل الجدد المنتظرين لفرصة العمر ينتظرون صناع القرار ليساهموا في تغيير مستقبلهم من خلال الدفع بكل قوة ودعم مشروع الابتعاث بقرارات صريحة وواضحة كما أتمنى من كل قلبي أن تتاح الفرصة لرجال الأعمال والميسورين الذين هم مستعدون لدعم بعض هذه البعثات كما يفعل رجال الأعمال الكويتيون والإماراتيون وغيرهم وأغنيائنا لا يقصرون أبدا وسنعمل نحن على الأرض كتجمعات خيرية نسائية أو مدنية للتنسيق بين هؤلاء الأغنياء والطلاب لحل أزمتهم وتوفير العيش الكريم لهم بدل هذا الاضطراب الذي ضرب عالمهم. وكلنا منتظرون.