د.محمد الشويعر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن هناك ما تسعى إليه الأمم لتحظى بـه وتؤمن بها شعوبها، هو الأمن والإيمان، وما يدور فيه من أمور، مع التيارات التي تعصف ببعض الأمم، نسأل الله العافية.
ومن هذا خصلتان متلازمتان: إحداهما تمكّن الأخرى، وتؤصلها: هما الأمن النفسي، والإيمان الاجتماعي الدينيّ.
والأمم تسعى إليهما، وتبذل في سبيل توفيرهما، والتمتع بهما جهداً ومالاً، وتخطيطاً ودراسة، لكن كثيراً من أمم الأرض قد خفّ ميزان هاتين الخصليتين عندهم، وغاب عنهم العلاج، فاهتموا بواحدة وهي الأمن، وتجاهلوا الثانية، أو على الأصح عصوا الله في الثانية، فصاروا يروّعون، ويزعجهم الإرهاب، فكان العقاب العاجل: {ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} سورة البقرة، الآية 61.
وجاء في الأثر من كلام الفضيل بن عياض: (ومن عصاني وهو يعرفني، سلطتُ عليه من لا يعرفني).
فإن اتّحدتْ هاتان الخصلتان في أيّ مجتمع قويت ركيزته، وتماسكت أجزاؤه، فاستحقوا الخير والتوفيق في أمورهم، ودفع الله عنهم الشرور والآفات: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} سورة الحج، الآية 28..
فتظهر مع الإيمان آثار استتباب الأمن، بحيث تطمئن القلوب في كل بيئة توافرات فيها الأسباب المعينة على ذلك.
أما إذا افترقتا، فإن الخلل يبين، بحسب زاوية الانفراج بينهما اتساعا وضيقا، ويتأثر الوضع بين الأفراد، وفي المجتمع، ويشتدّ الاحتراس والتخوّف، كلما نقص الإيمان.
والذي يحصل عن نقصه: انتزاع الأمن في الأوطان، والطمأنينة في البلدان وسائر المجتمع, كما قال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} سورة النساء، الآية 79، وهاتان الرّكيزتان:
الأمن: الذي يأخذ من الأمم جهداً كبيراً، وأموالاً طائلة علاوة على الدراسات والتخطيط، وتكريس الأعداد الهائلة من الأجهزة والأفراد والمعدات، وهذا كلّه جزء من العمل الاجتماعي الذي يستنزف طاقات، وقدرات كثيرة.
والإيمان: الذي هو عمل وجداني، منبعث من الأحاسيس، وتوثّق ركيزته: عقيدة ثابتة محلّها القلب، وهو عامل دينيّ، يدفع النفس لأعمال أحبها الله وأمر بها، فترضى البيئة وأهلها ولا يطُلبُ حامل هذه العقيدة مردوداً من المجتمع وأفراده، وإنما ذلك جزاء من الله؛ لأنه امتثل أمره واهتمّ بأداء الأمانة، التي أوجبتها عليه عقيدة الإيمان، فتحمّلها بعلمه وعمله.
يقرّب ذلك، واقع محسوس، برز في قول مندوب ملك الروم، عندما جاء إلى المدينة المنورة، فكان يبحث عن قائد المسلمين، الخليفة الراشد: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أمر هام جاء من أجله، فوجده نائماً في المسجد، بدون حراسة ولا قوات تحافظ عليه، إلا حفظ الله له، وقد توسدّ كومة من التراب، وأثَّرت في وجهه.
فقال له: لقد حكمت فعدلت، فأمنت ونمت يا عمر! وهذا من حرصه رضي الله عنه الشديد على أداء الأمانة، التي تحملّها، وما ذلك إلاّ لأن إيمان عمر قويّ، وكان مدركا لثقل الأمانة الذي ذكره الله في آخر سورة الأحزاب في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} سورة الأحزاب، الآية 72، ومن حثّ رسوله صلى الله عليه وسلم عليها، فكان من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ويطبقون, وكان وقافا عند حدود الله.
ومع ذلك فإن يد الغدر والخيانة، والقلوب الخاوية من الإيمان، امتدّت إليه، بإرادة منهم لإطفاء وهج الإيمان، فاغتالت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو في الصلاة مع جماعة المسلمين، في فاتحة من أعمال الإرهاب، يراد وراءها إطفاء نور الله، إلا أن موت عمر وغيره، من رجال مدرسة النبوة، أولئك الذين هم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لا يميت الحق.
ومن المعلوم أن راحة النفوس لا تكون إلا بالإيمان، ورخاء المجتمع لا يكتمل إلا بالأمان.
فالأمان ثمرة من ثمار الإيمان، وحصيلة من حصائل العقيدة الصافية، المرتبطة بالله جلّ وعلا وجدانياً وبالجوارح عملياً.
والإيمان والعقيدة الصافية، لا يكون لهما أثر ثابت، ونتيجة ظاهرة مرضية، إلا بعد الدخول في الإسلام وفهمه جيداً، ثم تطبيقه عملاً؛ لأنه الدين الذي لا يقبل الله من الثقلين: الجن والإنس, إلا هو، كما قال سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} سورة آل عمران، الآية 85، إلا أنه هو المدخل لعقيدة الإيمان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وهذه الشهادة أول أركان الإسلام الستة)، فيجب لهذا أن يكون الإنسان مسلماً بلسانه وجوارحه، ويسلم الناس من أعماله السيئة، فلا يكون إيمان المرء وإسلامه بلسانه فقط, دون أن تكون جذوره راسخة في قلبه، فهو ليس بالادعاء أو الانتماء، ولكنه تحقيق وبرهان، يقول سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} سورة الحجرات، الآية 14.
فمرتبة الإيمان أعلى من مرتبة الإسلام، ونفس لا إيمان فيها، تبقى مضطربة تتقاذفها الأهواء والنزعات، وتكون جاهزة للتغرير؛ لأنها قلبة، ويحركها أصحاب الأهواء الخفية، لمآربهم التي تضر بالأمة، وتبقى تائهة ومضطربة، تتقاذفها الأهواء؛ لأنها لا تسير في هدف يرضي الله عنه، ويحركها أفكار شاذة، وأيدٍ خفيّة، وتجسم أمامها أمور، تجعل أصحابها يتخوّفون من كلّ ما يصوّر أمامهم حتى يسهل توجيههم، وانقيادهم لأمور بدون روية، أو نظرة للعواقب ولا إدراك لما يساقون إليه، من إضرار بالنفس، وبالمجتمع وإرهاب للأمة, وقتل النفس البريئة المحرمة بغير حق، وعصيان لولي الأمر، الذي قرن الله طاعته بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم أمانة أمام أولياء الأمور، بدءاً بالأسرة والبيت، ثم المدرسة والمجتمع، وكلّ من لديه القدرة على التوجيه والإبانة: من العلماء والمفكرين، والمدركين لبواطن الأمور، بما أعطاهم الله من فِطنة، استيحاء من قول الشاعر:
أرى خلَلَ الرّماد وميض جمر
ويوشك أن يكون لها ضرام