أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} [سورة الشورى/ 48].
قال أبو عبدالرحمن: ليس ههنا مدحٌ للفرح ولا ذم من جهة الرحمة، وفيها ذم للإنسان إذا جحد تلك الرحمةَ وسخِط من تلك السيئةِ التي أصابته بسببٍ منه؛ ولذلك جاء في لحن الخطاب: {فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ}؛ فالكفرُ بنعمة اللهِ مفتاحُ الزيغ؛ فما خلقنا ربنا إلا لنسعد بطاعتنا إياه؛ فنشكره ولا نكفره وهو الغني الحميد.. وتلك مُعادلةٌ فَصَّلَها ربنا سبحانه وتعالى غايةَ التفصيل في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا. وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [سورة النساء/ 72-73]، ثم قال سبحانه وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [سورة النساء /78-79]؛ ففرحُهم برحمةِ اللهِ إيَّاهم مع شُكْرِهم إياه عليها هو الفرحُ الممدوحُ، وهو مِفتاحُ العبودية لله وحْدَه.. ثم تصيبهم مصيبةٌ من ربِّهم الذي بيده الأمرُ جلَّ جلاله؛ وهي ههنا فَقْدُهم مَنْ قُتِلَ مِن أقاربهم المجاهدين في سبيل الله، ويدخل في ذلك ما فَاتَهم من الغنائم التي نالها المجاهدون في سبيل الله؛ وهم الذين انتصروا ولم يُقْتَلُوا؛ فإن شكروا الله على ما ناله أقرباؤهم مِن الغنائم؛ وهم الذين انتصروا على عَدُوِّ الله وعَدُوِّهم، وَقَتَلُوا ولمْ يُقْتَلُوا، وشكروا الله على ما ناله أقرباؤهم الذين اِسْتُشْهِدوا في سبيل الله من نعيم الجنة المُعَجَّلِ في هذه الحياة الدنيا، واسْتَغْفَروا ربَّهم وأنابوا إليه من ظُلْمِهم أنْفَسَهم لَمَّا تقاعسوا عن الجهاد، وكانوا يخشون الناسَ الذين سيقاتلونهم كخشية الله أو أشدَّ خَشْيةِ [التشْبيهُ لحال فريقٍ منهم، والتفَّضيِلُ لحالِ فريقٍ، وربنا سبحانه مُقَدَّسٌ عن أنْ يكونَعِلْمُهُ مُتَرَدِّداً بين (كخشيِةِ) و(أشَدَّ خشية)؛ فعلمه سبحانه وتعالى إذن مُحَقَّقٌ عن حالِ كلِّ فردٍ منهم]، ثُمَّ لا يأسَوا على ما فاتهم من الغنائم، ويعترفون بأنَّ الله لم يظلمهم؛ لأنه جلَّ جلاله عاملهم بعدله؛ لِيُمحِّصهم، ثم عاملهم برحمته إن عفا عنهم إنْ كانوا على ما وصفتُ آنفاً كحالِ الذين فَرَّوا من الزحف؛ إذْ استزلَّهم الشيطانُ ببعض ذنوبِهم، ثم عفا عنهم؛ وفيهم مِن خِيارِ الصحابة رضي الله عنهم؛ فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [سورة آل عمران /143]، ثم قال سبحانه وتعالى في سياق الآية؛ وهو وَعْدٌ ووعيد: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران/145-148]، ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمَْظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة آل عمران/ 152-157]؛ فهذا عَفْوُ اللهِ عنهم بِمَنِّه وفضلِه وله المِنَّةُ وحده.. ولقد أصاب المسلمين غَمٌّ وحَزْنٌ فيما جرى يوم أُحد، والحزنُ نقيضُ الفرحِ، وفاتهم قَتْلُ أو أَسْرُ عدوِّ الله وَعَدُوِّهم، وفاتهم الغنيمةُ منهم، وما يَحْصُلُ لهم من مالٍ إنْ فَادَوا أسْرَى الكفَّارِ؛ فكانَ ثوابُ الله المُعَجَّلِ لهم مع عَفْوِه عنهم، وتبديلِه غَمَّهم وحُزْنَهم: أنْ أنزل عليهم أَمَنَةً؛ ومِن تلك الأمَنة النعاسُ الذي يغشى طائفةً منهم، ثم أخذ السياق من الآية 154 في الوعظِ، واللحنِ بالخطاب إلى المنافقين الذين يظنون بالله غيرَ الحق ظنَّ الجاهلية، وخلالَ هذا الوعظِ الذي يأخذُ بتلابيب القلوب جاءتْ الْمُؤْمنين الْبُشْرَى بعفو الله عنهم مرَّةً ثانيةً.. ثم جاء السياق موعظةً وبُشْرى وَمَغْفِرَةً، وتخويفاً للمنافقين في قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوَْ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ. الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران/ 165-175].. وههنا جاء تذكيرُ المؤمنين باللَّحْنِ إلى مصيبتهم يوم أحد، وتلك من عُمومِ سُنَّةِ اللهِ الكونيةِ مع عباده الْـمُؤمنين؛ فقد عَوَّضَهم عن مصيبتهم تلك في دنياهم العاجلة بفرحٍ ضِعْفَ ما أصابهم مِن مصيبة، وذَكَّرهم بأن مصيبتهم تلك بسببٍ منهم أنفسهم، فعاملهم بعدلِه فيهم بتلك المصيبة، ثم جَعَلَ عَدْلَه فيهم رحمةً لهم؛ لأنَّ ربَّنا أرحمَ الراحمين وأكرمَ الأكرمين: طهَّرهم ومَحَّصَهم وعفا عنهم.. ولقد كتبتُ منذ أعوامٍ في هذه الجريدةِ تحليلاً لإحدى الزَّهراوين (سورةِ آل عمران)، وهي من السُّوَرِ التي نَتَداوَى بها مِن أمراضِ القلوب وأمراض الأبدان، وينغي مِن المسلم - ولا سيما إنْ كان مَرِيضَ الْبَدَنِ - أنْ يَعْمُرَ بتلاوتهما بيتَه كُلَّ أسبوعٍ مَرَّةً على الأقَلِّ؛ فهما طَرَّادتانِ الشَّياطين، جالبتانِ السُّرورَ؛ فيالله ما أسرعَ رحمةَ الرَّبِ الكريم؛ وهي تسبق غضبه وعقابَه، ولا يهلك على الله إلا هالِك؛ فنسأل الله جَلَّتْ قَدْرتُه: أنْ يهدينا وأنْ يعصمنا من الذنوبِ والخطايا كبيرها وصغيرها ولَمَمِها - وإن كان للصغائر مُكَفِّراتٍ، وفي اللَّمَمِ زاجرٌ عن الاغترار بالعمل، والنظرِ إليه، والْمِنَّةِ به على مَن بيده الهدايةُ، فلولا اللهُ ما اهتدينا.. وللهِ المنة وحده -.. ونسأله أنْ يَعْصمنا من الفواحِشِ والْمُنْكَراتِ ما ظهر منها وما بطن، وأنْ يَعُيْنَنا، وأنْ يُثبتنا في كلِّ ذلك: بصبر عن اقتراف معصيتنا إيَّاه، وصبرٍ على ما كَلَّفنا إيَّاه مِن الثَّباتِ على طاعتنا إياه بما يُرْضِيْه عَنَّا؛ لأن الجنَّةَ محفوفةٌ بالمكارِه، والنار مَحْفُوفةٌ بالشهواتِ والأهواء، وأكثرُ مَنْ أُخاطبهم ههنا من أترابي من طلبة العلم الشرعي، ومِن السادِرين فيما سِدِرتُ فيه من المرحِ واللهوِ وغِواياتِ الفنون والآداب والجمال الطبيعي، وقد طَعَنَّا الثمانين عاماً فلا عُذْرَ لنا، ولقد لَهَوْنا فيها ردحاً من الزمن؛ وإننا إنما نرجو الزَّحْزَحةَ عن النار بدءاً، ودخولَ الجنة بدءاً؛ فإنَّنا مُلاقُونَ ربَّنا لا مَحالةَ؛ وقَدْ قَرُبَ الرَّحيل، والحيُّ لا تُؤْمَنُ عليه الفتنَة؛ وإننا وربِّي لَفَرِحون مُستبشرون بكل ما نراه من البشرى في دنيانا؛ فإنَّ في الخشوعِ والبكاء من خشيةِ الله في الخلوةِ، والبكاءِ من معاينةِ فضلِه ورزقِه وَبِرِّه ولطفه وكرمه: من الإعزازِ بعد الذلَّة، والتكْثيرِ بعد الْقِلَّة، والإغناءِ بعد الْعَيْلَةِ.. وإنْ في حفيفِ الملائكةِ في الخلوة عند الذكر والعبادة والخشوع وصِدْقِ السريرةِ: لَحَلاوةٌ ولذَّة وبشرى.. وَمَنْ شكَّ فيما أقولُ فَلْيُجَرِّبْ.. اللهم أحْيِنا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفَّنا ما علمتَ الوفاةَ خيراً لنا في غيرِ ضرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فتنةِ مُضِلَّة.
قال أبو عبدالرحمن: فَلْيَفْرحْ المؤمنون بالْمُفْرِحِ مِن وَعْدِ ربهم في قوله تعالى مخاطباً عبده ورسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم والخطابُ شامِلٌ جميعَ أُمَّتِه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزُّمَر/53]؛ فكلُّ ما ذكرتُه آنفاً مُنْتَهى العبوديةِ لله بعد أنْ ذكرتُ مفتاحَها.
واعْلموا أيها الأحباب: أنَّ الْـبُشْرى في معنى الْـمُرَادِفِ الفرحَ الْـمَبْرورَ؛ لأنَّ البشرى مُنْتجةٌ الفرحَ الْـمَشكور؛ ولا يكون ذلك إلا مِن القادر الذي بيده الأمرُ جلَّ جلاله.. وقد جعل الله من خشيته في السِّرِّ، ومِن الملائكةِ المُكْرمين الذين يستغفرون لِمَنْ في الأرضِ عليهم سلامُ الله وبركاته: مُبَشِّراتٍ، والله يغفر ويرحم ويكرم ولا مُكْرِه له؛ بل كلُّ ذلك عن عزَّته وَقدْرتِه؛ فهو الذي جعل دعاء المؤمنين سبباً للهداية لِمن أّذِن له ورضي قوله.
قال أبو عبدالرحمن: ذكرتُ في السَّبْتِيَّةِ السابقة معانيَ بعضِ الصِّيَغِ (الأوزانِ) الزَّائدة على معاني المُفْرَدَةِ اللغوية (المادَّةِ) مُكْتفياً بالصِّيغ ومعانيها التي ذكرها الإمام ابن فارسٍ والْعَلَّامَةُ الراغب الأصبهاني، والآن أذكر بقايا الصيغ مِن أوْعَبِ كتابٍ يَهْتَمُّ بمعاني الصيغِ؛ وهو كتابُ (شَمْسُ العلومِ ودواءُ كلام العربِ مِن الكُلُوم) لِنَشْوانَ بن سعيدٍ الحميري [ــ 573هـ] رحمهم الله تعالى، وقد طبع في اثْنَيْ عشرَ مُجَلَّداً ضخماً.. كلُّ جُزْءٍ مُجَلَّدٍ في حدود أرْبَعَمِئَةِ ورقةٍ.. أي ثمانمئة صفحة وَنَيِّفٍ من الحجم المتوسط خلالَ عام 1420هـ.. وكنتُ اقْتَنَيْتُ صُوَرَ بعض المخطوطات لعددٍ مِن الأجزاء، وكنتُ في سبيلِ أنْ أسْعَى ويسعَى بعضُ أحبَّائي للحصول على صورِ بقية الأجزاءِ الخطِّيَّة التي يُكمِّلُ بعضُها بعضاً، وكنتُ أرجع إلى صُوَرِ النُسَخِ التي لديَّ لتحقيق بعضِ الموادِّ اللغوية التي حَقَّقْتُها ونشرتها في بعض الصُّحفِ والدوريات على الرُّغمِ مِن الْعَناء في البحث عن بُغْيتي؛ لأنَّ نشوانَ صَعَّبَ الرجوعَ إلى كتابه؛ فكان يذكر معاني الصيغ لمادة الفاء والراء والجيم، ومادةِ الفاء والراء والحاء المهملةِ في صفحاتٍ متباعِدة، ولم يَنْهَجْ مَنْهجَ مُسَهِّلِيْ فَهْمِ العلم والرجوع إليه كالفارابي اللغوي، ثم ابن فارس، ثم الراغبِ الأصفهاني، ثم الزمَخْشَرِيَ في كتابه (أساسُ البلاغةِ)؛ فكانوا يُوْردون المادَّة في صعيد واحد على سياقٍ واحد.. ومع كلِّ هذه الأعباءِ كانتْ تُحَدِّثني نفسي بتحقيق الأجزاء التي لديَّ، والنُّسَخ التي سَتَرِد عليَّ، وأنْ أطبعها بواقع أَلْفي نسخة؛ فلما صدرت هذه الطبعةُ الْـمُباركةُ مِنذُ سِتَّةَ عشرَ عاماً حَمِدْتُ الله الذي حال بيني وبين ما هَمَمْتُ به؛ لأنَّ عُقباهُ وخيمةٌ عليَّ جداً؛ فأنَّى لي أنْ أفِيَ بذلك العملِ الجبَّار الذي طالعتنا به الطبعة المذكورة بتحقيق الأستاذ الدكتور حسين عبدالله العمري، والأستاذ مُطَهَّرْ بن علي الأرياني، والأستاذ الدكتور يوسف بن محمد بن عبدالله.. وستجدون في نَقْلِي معانيَ الصِّيغ للمادَّة المذكورة آنفاً مدى تشْتيتِ مادَّةِ البحثِ مِن تباعُدِ الصفحات التي أُحِيلُ إليها؛ فقد عَقَدَ الباب للفاء والراء والجيم؛ فقال في فَصْلٍ عن الأسماءِ على وزنِ (فَعْل) بفتحِ الفاء وسكونِ العين: ((الفَرْج: الثغر، وكل موضع يُخافمنه فرج.. قال لبيد:
رابطُ الجأشِ على فرْجِهمُ
أَعْطَفُ الجَوْنِ بمربوعٍ مِثَلْ
والفَرْجان: اللذان يُخاف منهما على الإسلام [؛ وهما]: الترك، والسودان.. والفَرْج: الفُرْجة بين الشيئين.. والفرج: ما بين قوائم الفرس، والجميع: فُرُوج، وقول امرئ القيس: (تسد به فرجها من دُبُر) يعني ما بين رجليها؛ فإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى مع تفسيرِ الشاهِدَين مِن كلامِ لبيدٍ وامْرِئ القيْس مع بقيةِ موادِّ هذا البحث المبارك إنْ شاء الله تعالى، والله الْمُسْتَعانُ.