إبراهيم عبدالله العمار
في عام 1939م وصل جورج دانزيغ متأخراً لفصله. كان جورج يعمل على شهادة الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا، ولما وصل وجد على السبورة نظريتين قد كتبهما الأستاذ، فظن أنهما جزء من واجبه، فكتبهما على كراسته وعاد لمنزله وعمل عليهما حتى حلهما، ولما سلّمهما قرأهما الأستاذ فكادت عيناه أن تخرجا من محجريهما من الدهشة، ذلك أن ما كتبه الأستاذ على السبورة لم يكن واجباً وإنما مسألتان لا حل لهما، نظريتان رياضيتان لم يقدر أحد أن يبرهنهما من قبل، وكتبهما الأستاذ على السبورة ذاكراً لتلامذته نبذة عنهما، وأنه لم يقدر أحد أن يثبتهما وأعيتا الخبراء، ولكن جورج لم يدرك هذا لأنه لم يصل إلا متأخراً لما انفض الطلاب وغادر الأستاذ الفصل، فحل هاتين المسألتين اللتين عجز عنهما فطاحلة الرياضيات!
هذا الشيء يتكرر أكثر مما تظن، أي كثرة المصادفات والعشوائية في العِلم، ويجدهما المرء في أشياء مخترَعة ومكتشفَة، منها شيء بالغ الانتشار في البيوت الآن. في صيف سنة 1945م كان المهندس سبنسر تريسي يجري بعض التجارب على جهاز المغنترون، وهو القلب النابض للرادار ومهمته إصدار الذبذبات. بعد برهة من الزمن شعر تريسي بالجوع فمد يده إلى جيبه والتقط لوحاً من الشوكولا ورفعه لفمه ليأكله ولكنه فوجئ أنه قد ذاب تماماً. استغرب تريسي، فكيف يذوب اللوح والغرفة باردة؟ لم يفهم ما حصل في البداية، ثم اتجهت الشبهة إلى جهاز المغنترون القوي الذي يعمل عليه. هل يمكن أن يكون هو السبب؟ كيف يكون السبب وهو لا يصدر حرارة قوية تجتاح كل ما حولها؟ غير أنه ظل يظن أن المغنترون له علاقة، فأراد تجربة نظريته ووضع أمام المغنترون إناءً من بذرات الذرة وشغّل الجهاز وابتعد وهو ينظر إليه، وما هي إلا لحظات وبدأت البذرات وتفرقع وإذا بها تتحول إلى أول حفنة من الفشار! هكذا أكَّد تريسي اعتقاده، وعكف على تقديم اختراع جديد وهو تطوير جهاز المغنترون بحيث يصبح سهل التصنيع بكميات كبيرة، عكس التصميم السابق الذي جعل الرادارات صعبة التصنيع إلا بكميات قليلة لأنها معتمدة على المغنترون الذي لا يُنتَج إلا ببطء وتكلفة، والاختراع الجديد الذي لا شك أنكم حزرتموه الآن هو فرن الميكرويف، وأول ما فعله هو أن حصل على براءة الاختراع ومن ثم قامت ريثيون –وهي الشركة التي يعمل عندها- بصنع جهاز ميكرويف، ولكن هذا بعيد عما نراه اليوم، فقد كان وزن أول جهاز ثلث طن وسعره ثلاثة آلاف دولار! وهذا لا شك هو ما حدَّ المبيعات إلى نسبة ضئيلة من فاحشي الثراء، واحتاج الميكرويف عشرين سنة ليتحول إلى الجيل الجديد من الميكرويفات التي قادت إلى الميكرويف الصغير الذي نعرفه اليوم وصار جزءًا لا يُستغنى عنه في المطبخ.
لا تستهن بقوة الصدفة. أحياناً هي أهم من سنين من العلم والبحوث!