د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
عقب انتهاء زيارة سمو الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد ووزير الدفاع لجمهورية مصر في الأسبوع الماضي صدر بيان مصري - سعودي تضمن الاتفاق على نقاط محددة للتعاون بين البلدين، تتمثل في التعاون العسكري والتكامل الاقتصادي.
والتعاون في مجال النقل والطاقة والربط الكهربائي وتكثيف الاستثمارات المتبادلة والتعاون السياسي والإعلامي والثقافي. ما أريد تحديدًا التنويه به هو التكامل الاقتصادي وتكثيف الاستثمارات المتبادلة. ذلك أنه في العلاقات بين الدول - حتى المتجاورة والشقيقة - لم تعد تكفي المشتركات التاريخية والثقافية والقومية للحفاظ عليها، ولم تكن تؤدّى أكثر من دور الواجهة المزخرفة التي تخفي وراءها الاختلافات والمنازعات. وقد أثبتت هشاشتها وعدم فاعليتها أمام التحديات الكبرى.
وأمامنا هذه الصراعات المحتدمة داخل الدول وبين بعضها بعضًا في المنطقة العربية. هذه الواجهات لم تصمد أمام التدخلات الخارجية - من إيران مثلاً، ولم تصمد أمام الاعتداءات من الأعداء - من إسرائيل مثلاً. فقد كانت مجرد علاقات ولم تكن روابط، وكانت تمسكها العاطفة أحيانًا والمجاملة ومراعاة الخواطر أو المنفعة الذاتية أحيانًا أخرى، بما يعتري ذلك من تقلبات وانتماءات لا تعرف الاستقرار، ولو كانت روابط تشدها المصالح المشتركة لما وهنت أو تفكّكت. وأقوى روابط المصالح المشتركة هو التكامل الاقتصادي، لأن الاقتصاد هو عصب الحياة - للفرد وللدولة نفسها. ولأن المصلحة المتحققة من التكامل الاقتصادي يمكن رصدها وإدراك فوائدها وآثارها الإيجابية على الوضع المعيشي وعلى الأوضاع الأمنية والخدمات والعلوم والتقنية والتنمية بشكل عام.
وقوة تأثير التكامل الاقتصادي لا تكمن في نتائجه ومنافعه، بل قبل ذلك في مشاركة مكونات الدولة في بنائه من الحكومة والمجتمع ومؤسسات الاقتصاد العامة والخاصة والمؤسسات التشريعية، وفي كونه يعمل كالرفيق المسالم، لا يتشاكس مع النظام السياسي في الدولة ولا أحزابها أو البنى الثقافية والاجتماعية فيها.
وأمامنا أشهر الأمثلة على ذلك، وهو قيام السوق الأوروبية المشتركة التي تطورت إلى كتلة قوية موحدة باسم الاتحاد الأوروبي الذي يضمّ دولاً لا تتّحد في اللغة أو النظام السياسي أو التعليمي أو الانتماء القومي، وإن كانت في الواقع تتحد في الإرث الثقافي الحضاري (المسيحي القديم والتنويري الفكري).
وفي الآونة الأخيرة -كما هو معروف- لم يمنع صعود حزب يساري صرف إلى سدّة الحكم في اليونان عن طريق الانتخاب من بقاء اليونان في رابطة الاتحاد الأوروبي، بعد أن وافق الحزب -لأن مصلحة اليونان الاقتصادية تتطلب ذلك- على شروط الاتحاد لدعم الاقتصاد اليوناني المتدهور.
إن التفكير العقلاني هو الذي هدى تلك الدول إلى تغليب المصلحة المشتركة على الانتماءات الضيقة، ما دامت كل دولة تشترك مع الدول الأخرى في الالتزام بالقيم والمبادئ الإنسانية (الحضارية) التي تعتبرها تلك الدول مثلاً أعلى من تلك الانتماءات التي تشمل الحرية الفكرية والسياسية والاقتصادية وحقوق الإِنسان...الخ).
ولا ريب في أن أي مجموعة من الدول ترى أن مصلحتها في التكامل الاقتصادي، لا بد أن تقف على أرضية مشتركة من المفاهيم والقيم والأهداف الإستراتيجية التي تمكّنها من تجاوز الفروق والاختلافات والرغبات الأحادية لتنظر بوضوح أين تكون المصلحة المشتركة، والرابط الأقوى الذي يحقق هذه المصلحة مع روابط أخرى.
الحاجة إلى وجود كتلة قويّة موحدة في المنطقة العربية المضطربة تكون قادرة على تفعيل المواقف السياسية وتلبية الاحتياجات الأمنية في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية تؤكد أن المنطق العملي الذي يترتب على إدراك هذه الحاجة يتمثّل في تكوين مصر والمملكة العربية السعودية مثل تلك الكتلة القوية، وأن برنامج التعاون المصري السعودي المعلن يعكس إدراك هذين البلدين لمصلحتهما المشتركة.
ويدل الواقع التاريخي- كما نشهده في تطور السوق الأوروبية المشتركه - أن الكتلة الموحدة قد تنشأ من دولتين في أول الأمر، ثم تتوسع مع كل نجاح لتضمّ دولاً أخرى. لقد سمعنا من قبل لأكثر من نصف قرن عن مشروعات وكيانات للتكامل الاقتصادي العربي (مجلس الوحدة الاقتصادية، السوق العربي المشترك..الخ)، لكنها لم تتحقق لأن المواقف والانتماءات والانحيازات الذاتية والسياسية كانت تأتي في المقدمة فتفتتها، أو في المؤخرة فتقبرها.
لذلك يبدو الآن أن برنامج التعاون الذي أفصح عنه البيان المصري السعودي واقعيّ، إِذ يسعى نحو تحقيق هدف محدد مبني على قاعدة المصلحة المشتركة، وليس على شعارات حماسية شعبوية أو مجاملات دبلوماسية.
وتضمّن الجانب الاقتصادي ثلاثة بنود هي: التكامل الاقتصادي والتعاون في مجال النقل والطاقة والربط الكهربائي وتكثيف الاستثمارات المتبادلة مما يؤكد حضور مصلحة البلدين في هذا التعاون ويضمن ثباتها واستقرارها ويجعل جميع أشكال التعاون الأخرى المستهدفة تزدهر وتثمر. وكل ذلك يتطلب حقيقة أن تكون للمصالح الاقتصادية المشتركة الأولوية في تنفيذ برنامج التعاون، لأن آثارها تنسحب على بقية بنود البرنامج وتضفي عليه المصداقية والجدية. أن مجالات التكامل الاقتصادي بين مصر والمملكة واسعة ومتنوعة تتوزع ما بين البنى التحتية (وقد ذكر البيان بعضها) والاستثمارات في المجالات الزراعية والصناعية والعقارية والتقنية والسياحية؛ وفي مصر ثروة ضخمة من القوى العاملة المتخصصة والفنية والحرفية التي يحتاج إليها تنفيذ الخطط التنموية بعد تأهيلها وتدريبها. ولا يحتاج البلدان لبداية جديدة في أنشطة التكامل الاقتصادي، فإن العلاقات الاقتصادية بينهما في مجالات التبادل التجاري والاستثمار والاستعانة بالموارد البشرية قائمة ولم تنقطع منذ نشأت، ولكنها لم تكن من العمق بحيث تقاوم الهزّات التي كانت تحدث في الماضي أحيانًا. والمفهوم من البرنامج المعلن أن المطلوب هو تكثيف وتنويع وتعميق الأنشطة في مجال التكامل الاقتصادي، وإزالة العقبات والحواجز النظامية والإجرائية وتوفير الأمان والبيئة الجاذبة والداعمة للقطاع الخاص، لكي يشارك بقوة وثقة في التكامل الاقتصادي المنشود، فإن دوره في تحقيق التكامل أساسي. وغني عن القول إن التكامل الاقتصادي لا يستوى على سوقه إلا إذا كان ما يستثمر في المملكة يخدم المملكة ومصر، وما يستثمر في مصر يخدم مصر والمملكة. أن المأمول في كل الأحوال هو أن يتمخض برنامج التعاون المصري السعودي عن كيان إقليمي عربي قوي من الناحية الاقتصادية والأمنية ويستطيع أن يعتمد على قدرته الذاتية في التغلب على التحديات والأخطار عمومًا، وعلى تهديد الأمن من أي قوة إقليمية أو تنظيم إرهابي خصوصًا.