د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
تعوّدنا أن ننظر إلى المنجزات الضخمة فتشدّ إعجابنا وتشعرنا بالاعتزاز والاقتناع بما وصلنا إليه من تقدّم. وليس في هذا ما يدعو للاستغراب، بل هو الأمر الطبيعي. ومن حقنا أن نزهو بما نراه شامخاً في الأفق
من منشآت ضخمة أو فخمة - في الرياض على سبيل المثال - كالعمائر وناطحات السحاب والفنادق والمجمعات التجارية والمستشفيات والجامعات، وغير ذلك من المنشآت رائعة التصميم وحديثة البناء، مما يؤكد للإنسان في هذا البلد أن ما يراه شاخصاً أمام عينيه هو تجسيدٌ لكمال البنية التحتية في مدينة عصرية. ولكنه عندما يرى ما تحت ناظريه على الأرض يعجب كيف أننا ننجز بنية تحتية عظيمة ونعجز عن إنجاز أمر هيّن كالاعتناء (بحوافِّ) هذه البنية، ومهمّ في نفس الوقت لأنه من أكثر ما يستخدمه الإنسان خارج بيته ومقر عمله، ويمارس فيه بعض حقوقه، مثل:
أولاً: حق الاستخدام الآمن للأرصفة:
مستخدم الرصيف في سيره لا يحتاج لأن يلجأ لهيئة حقوق الإنسان لعرض قضيته، لأن هذه القضية تختص بها الأمانة (البلدية) والمجلس البلدي. لكن أمانة مدينة الرياض - وهي نموذج لغيرها - لديها مما تقدمه من الخدمات والمشاريع والأولويات الضخمة ما يشغلها عن (اللّمم) الذي يُلمّ بكبار السن والمقعدين والأمهات الدافعات لعربات أطفالهن (ولا ننسى ضعاف البصر فهم ضحايا الحفر). والمجلس البلدي مطمئن لقيام الأمانة بواجبها فهو مرتاح. ولا أظن في الأمر مبالغة إذا نظرنا لحق استخدام الرصيف من زاوية حقوق الإنسان. فالإنسان المعاق حركياً من حقه أن يستخدم الرصيف مثل الإنسان المعافى، إما قاصداً قضاء حاجة معينة أو لمجرد التمشية أو لمرافقة زوجته في التسوّق. ومهما كان الغرض من السير، فالمسافة من موقف وسيلة المواصلات إلى الجهة المقصودة تتطلب استخدام الرصيف. كيف يتسنّى ذلك لمن يسير بكرسيّ متحرك إذا كانت حافة الرصيف عالية بحيث يحتاج للمساعدة في رفعه؟ وكيف يسير بأمان على الرصيف إذا كان سيصادف حفراً أو أحواض شجر أو عموداً مقاماً في عرض الرصيف أو درجاً مؤدّياً إلى فتحة دكان، وماذا يصنع إذا واجهته دلفة باب المحلّ الزجاجية مفتوحة إلى الخارج؟ ليس أمام صاحب الكرسيّ المتحرك إلا أن يسير في الشارع بمحاذاة الرصيف معرّضاً نفسه وغيره للخطر، أو أن يعتاد على النزول من السيارة التي عليها الوقوف أمام باب المحل المقصود وانتظار خروجه. وما ينطبق على المعاق حركياً ينطبق على الطفل المدفوع بعربته، وعلى الشيخ المسنّ الذي يتوكَّأ على عكّازه، وكذلك ضعيف البصر (خاصة بعد الغسق). يضاف إلى كل ذلك المنظر القبيح للرصيف وتعدّد أنواع وألوان بلاطه وأحجاره. لا يجب الاستهانة بالأرصفة وأهميتها للسير بحجّة أن استخدامها ليس أساسياً، ما دام أكثر الناس يفضلون استخدام السيارة على السير على أقدامهم، أو لأن الجوّ حارٌ في معظم أيام السنة ولا يصلح للمشي. فإنه بعد أربع سنوات سيكون للرصيف أهمية بالغة لمن يستخدم (المترو) والحافلة. ومن المفارقات المضحكة أن بعض أصحاب السيارات يوقفون سياراتهم فوق الأرصفة العريضة بحثاً عن الظل أو السعة، والمرور لا يحرّك ساكناً لأن مشكلته مع حركة المرور وليس حركة المشاة.
ثانياً: حق سكان الحيّ في بيئة نظيفة:
حظيت المشاريع البيئية الضخمة باهتمام بالغ من إمارة المنطقة وهيئة تطوير الرياض ومن الأمانة. ويكفي الإشارة هنا إلى مشروع تطوير وادى حنيفة والمشروع الذي يجري التحضير له، وهو نقل مصنع إسمنت اليمامة من مكانة الحالي المجاور للأحياء السكنية، وغيرها من المشاريع الاستراتيجية التي تخدم قطاعات عريضة من السكان. أما الأحياء السكنية نفسها - منفردة - فلم يُلتفت إلى حق سكانها في إزالة ما بها من منغصات، تعتبر صغيرة قياساً على مثل تلك المشاريع، لكنها تشكّل مصدر أذى وإزعاج للسكان، ولا يتطلب القضاء عليها أكثر من متابعة الرقابة وتطبيق العقوبات النظامية على المخالفين. أمثلة من ذلك نراها في حدائق الأحياء التي تحيط بها المساكن أو بعض المرافق. ففي حين اهتمّت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإزالة الأشجار الكثيفة المتشابكة التي تحيط بإحدى الحدائق في شمال الرياض -على سبيل المثال- لأنها تستر ما يجري خلفها في عتمة الليل من ممارسات غير مسموح بها، فإن البلدية لم تبذل الاهتمام نفسه للحدّ من الممارسات المكشوفة المؤذية للسكان التي يقوم بها بعض روّاد الحديقة من طبخ وتدخين معسٌل ورمي للزبالة على أرض الحديقة وما حولها، مع أن هناك لوائح تمنع ذلك وحراسة ثابتة عليها، كما أن البلدية لم تقم بتسوير الحديقة بسور منخفض يعلوه سياج حديدي لا يحجب الرؤية من الخارج ولكنه يحميها ويجمّلها. ومما يزعج السكان أيضاً رمي مخلفات المباني على الأراضي البيضاء بالحيٌ، وبعضها يحيطه الملّاك بحاجز ترابيّ من المخلفات أيضاً.
وفي جميع الحالات مناظر بشعة وغبارٌ دائم. كانت الأمانة - فيما مضى - تفرض تسوير الأراضي البيضاء بسور خرسانيّ لائق الشكل ويحمي الأرض. لن نغادر الحيّ دون إشارة إلى المستنقعات التي تنشأ من تسربات مياهٍ غير نظيفة من المحلات أو المساكن، وإلى ضرورة تنظيم وضع براميل وصناديق الزبالة في الشوارع، بحيث لا تزعج المارّة ولا تضايق السيارات.
ثالثاً: ختاماً لعل ما يتمنى المرء يدركه:
كم نتمنّى أن نقول عن الرياض أنها مدينة جميلة، وأن نتغنّى بجمالها. ولكن من دون أرصفة جميلة وحدائق وشوارع أحياءٍ نظيفة يحتبس الصوت! ربما يقال إن مدينة الرياض تمرّ الآن بأغبر أيامها (أو سنواتها) بفضل المشاريع الضخمة فوق وتحت الأرض - وعلى رأسها مشروع قطار الرياض - فاصبروا عليها حتى ينقشع الغبار. وهذا صحيح، لولا أني أخشى أن تنطبق علينا في هذا المجال المدنيّ الصرف نظرية (النوافذ المحطمة) المعروفة في المجال الأمني، والتي كتب عنها الأستاذ طارق السياط في جريدة الرياض بتاريخ 15-8-1436هـ، أي أن تتكاثر علينا النواقص الصغيرة فنتعوّد عليها، وتكبر شيئاً فشيئا إلى أن تفاجئنا بخراب يكلّف إصلاحه الشيء الكثير. لهذا فإن معمعة المشاريع تقدم الفرصة المثلى للشروع في تحسين وضع الأرصفة وحماية حق سكان الحيّ في بيئة نظيفة، وذلك من أجل أن تبدو الرياض بعد الانتهاء من تنفيذ مشاريعها مكتملة الزينة لا يشوب وجهها الجميل بقع أو بثور.