د.عبد الرحمن الحبيب
رجل يمشي في حديقة يباغته ذباب على وجهه، يهشه فيزوغ الذباب منه لكنه في لحظة يعود، فيعاود الرجل ذات الطريقة، وهكذا دواليك. الرجل منزعج لا يفهم لماذا يعود الذباب إليه رغم أنه لا ينال شيئاً سوى الهش وربما ضربة قاتلة..
... هل هذه حشرة مجنونة تريد الموت؟ كلا، هي تريد طعاماً.. لكن الرجل يفكر بطريقته البشرية وليس بطريقة الذباب الحَشرية.. الفارق بينهما في الإدراك المكاني والزماني؛ الذباب يرى حركة يد الرجل (السريعة بالإدراك البشري) بطيئة يمكنه تحاشيها بسهولة، كما أن ذاكرته لحظية على خلاف ذاكرة الإنسان.
لا نستطيع استيعاب أعمال «داعش» البشعة إلا إذا حاولنا فهم طريقة تفكيرهم وليس فقط فكرهم. أعمال «داعش» حسب فهمنا سينتج عنها مزيد من تنفير الناس منهم ومزيد من الحرب عليهم، لا سيما حين يستهدفون مسجداً مكتظاً بالمصلين. هنا نصل لنتيجة منطقية بأن منفذي هذه الأعمال مجانين مسلوبو الإرادة، ولكن كيف يكونون كذلك وهم يخططون بطريقة منظمة لا تتوافق مع الجنون، فنصل لنتيجة متناقضة لمنطقنا ونستمر في التعجب..
إذا كنا نظن أن الدواعش يفكرون بطريقتنا وليس بطريقتهم، فسنظل في حالة تعجب كفهم ذاك الرجل للذباب حين لم يفكر بنسبية الزمان والمكان. لنتأمَّل النسبية مثال تشوانج تسو الفيلسوف الصيني الذي صاغه قبل اينشتاين بأكثر من ألفي عام: «ذات مرة حلم تشوانج تسو أنه صار فراشة ترفرف، خالية من أي إحساس ولا تدري أي شيء عن تشوانج تسو، فجأة صحا وقد عاد مجدداً تشوانج تسو، والآن لم يعد يعرف ما إذا كان تشوانج تسو قد رأى حلماً وصار فيه فراشة أو أن الفراشة قد حلمت أنها صارت تشوانج تسو، لكن المؤكد أن ثمة فرقاً بين الفراشة وتشوانج تسو. تلك هي الحال في تحول الأشياء». القصد هنا أن تفهم الآخر وكأنك مكانه، وما يرمي إليه تسو أن ثمة قناعات ترسبت لدى الناس وتحجرت وينبغي التنبيه إلى نسبية التجربة ومعايير التقييم وطرق التفكير.
أن يخسر «داعش» جراء أعماله مزيداً من الناس فهو تحصيل حاصل بالنسبة له، لأن الغالبية أصلاً ضده، لكن الدواعش يستهدفون التأثير في الأقلية المتطرفة. إن أعمالهم المنفرة لنا هدفها لفت الانتباه، كي تبقى قضيتهم الهامشية محط الأنظار ومتداولة إعلامياً لتصل للأقلية المتطرفة الموجه لها رسالة هذا العمل لتوقظ خلاياهم النائمة وتستقطبهم للعمل الإرهابي.. هم، إذن، يظنون أنهم يربحون. هذه الأعمال تكون مصاحبة بصور بشعة تحبس الأنفاس.. إنها الإثارة البصرية التي يستغلها الإرهابي في زمن الصورة الإنترنتية..
ذلك ليس منوطاً بـ»داعش» فقط، وإن كان الأكثر إمعاناً في التوحش، وليس مقتصراً على منطقتنا وإن كانت حالياً الأكثر ممارسة بسبب الاضطرابات في المنطقة، فقبل شهرين شهدنا حادثة تفجير كنيسة تشارلستون في أمريكا التي ألهبت كل الإعلام الأمريكي حتى هذه اللحظة.. إنه لفت الأنظار من قبل متطرفين غير قادرين على الانخراط في مجتمعاتهم..
لماذا التفجير في مسجد يا «داعش»؟ لأنه هدف سهل، ولا فرق بين مسجد أو مستشفى أو مدرسة مقارنة بقاعدة عسكرية.. الجميع كفار يستحقون القتل من منظوره، فلا يهم المكان وطبيعة العمل فيه. إنه تطرف شامل يرى فيه المتطرفون أنهم على حق والأغلبية على باطل، فالأغلبية هم المجانين.. بينما نحن نصدر أحكامنا بأنهم حمقى تعرضوا لغسيل دماغ.. أحكامنا هذه ليست غير صحيحة بل غير كافية، فبعضهم ينطبق عليه هذا التشخيص لكن بعضهم الآخر، غير ذلك؛ فلماذا لا نقول إن هذه إرادتهم هم أنفسهم كذوات مستقلة. إرادة موجودة دائماً لدى فئة ضئيلة في كل مجتمع، وهي منتعشة الآن في منطقتنا بسبب الاضطرابات في المنطقة.
غسيل الدماغ لا يكفي لتنظيم جماعات متطرفة، فالأفراد الذين ينجذبون لمنظمات إرهابية يعتقدون أنهم يدافعون عما يعتبرونه قضية عادلة، وينضمون لهذه الجماعات لأنهم يريدون ذلك (حسب دراسة أتلانتك). فهم بإرادتهم الكاملة وبكينونتهم المستقلة مهيئون للأعمال المدمرة للنظام الاجتماعي المستقر. استيعاب ذلك، وليس كيف تم غسيل أدمغتهم، هو طريق توضيحي أفضل للفهم..
ثمة عامل آخر جديد وخطير أنعش الإرهاب: إنه الإنترنت.. كان أغلب المتطرفين يهيمون فرادى شذوا عن مجتمعاتهم.. كانوا متفرقين منطوين على أنفسهم بين الناس، إنما الآن صاروا يجدون بالإنترنت أمثالهم مما سهل عليهم الانخراط في جماعات.. معنوياتهم ارتفعت، واكتسبوا ثقة غير معهودة في أنفسهم.. كان الفرد الذي يرغب في عمل انتحاري يائساً وبائساً، نادراً ما ينفذ عمله لأن تأثيره لحظي بلا فاعلية.. صار أمثالهم أكثر جرأة وتكراراً في عالم اليوم. الآن، لكل ساقط لاقط مهما كان منفراً..
إنها العولمة والتطور المتسارع في تقنية الاتصالات التي فجرت تغيرات هائلة وتقلبات حادة يصعب توقعها والاستعداد لها على الطريقة السابقة. العولمة أثرت في كل النشاطات البشرية.. المعلومات والأفكار والمنتجات تنجرف بين الدول بضخامة لم يسبق لها مثيل. هذا محفز للتطور البشري، لكنه أيضاً يثير المنافسة الشرسة على المعيشة والاقتتال على الموارد والتوتر الاجتماعي، مما شكل اضطراباً سياسياً للدول ونفسياً للأفراد..
بذور هذا الاضطراب نمت منذ قرن.. حينها كتب فرانز كافكا «المسخ» أشهر روايات القرن العشرين: «ذات صباح، استيقظ جريجور سامسا على فراشه فوجد نفسه متحولاً إلى حشرة عملاقة..» جريجور البائع المتجول البسيط والبائس الذي يجوب المدن بشقاء يومي وأمنيات مستحيلة لتحسين وضعه، يحاول الآن كحشرة النهوض من فراشه بأوجاع حادة من أطرافه المفصلية الحشرية، مستمعاً للأصوات خلف الباب قلقة من تأخر نومه، ثم منزعجة منه.. وحين يحاول الرد عليهم بحشرجة غريبة وصوت غير بشري يعجز عن التواصل معهم، ينبذونه ويحتقرونه.. يختبئ عن الأعين، فهو حشرة، يصارع حالته المريرة غير قادر على النهوض.. في نهاية المطاف، ماذا يمكنه أن يفعل غير الموت؟ الانتحار هو الحل الوحيد الممكن.. جريجور شاهد لبدايات القرن العشرين التي أعقبها حربان عالميتان..
في عولمة قرننا الحادي والعشرين، تستيقظ الخلايا النائمة وتجتمع الذئاب المنفردة في قطعان.. كان الذئب المنفرد يتحاشى طريقك كما يتحاشى الذباب كفك، صار قطيع الذئاب يباغتك من الخلف في مكان وزمان لم تضرب له أي حساب.. ولحديث عولمة الإرهاب بقية..