مطيع النونو
يقول رب العزة والجلال: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة لقمان، الآية: 34).
جاء في تفسير الآية الكريمة للإمام بن كثير: هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، ولا يجليها لوقتها إلا هو). ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله بخلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه.
وقال الإمام أحمد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل.
إن عميد الدبلوماسية السعودية الأمير سعود الفيصل كان يعالج في إحدى المستشفيات الأمريكية في لوس أنجلوس بألم في فقرات الظهر وفي الرقبة؛ بسبب الألم المتواصل بجسمه وهذه العملية الخامسة لسموه والسبب معروف، لأنه لا يعتمد إلا على نفسه ليكتب ما يحتاجه من خطب في المؤتمرات الصحفية العديدة مع وزراء خارجية العالم العربي والغربي والشرقي، وأيضاً في إعداد التقارير السياسية عن نشاطاته خلال زياراته لعواصم الدول العالمية لرفعها لقيادات المملكة العربية السعودية.
لقد أعلن عن وفاة الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - يوم الخميس 23 رمضان وهو الأسبوع الأخير لشهر رمضان والتي يصادف فيه ليلة القدر.
وقال الإمام أبو هريرة، إن رسول الله قال: في ليلة القدر الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى.
يُعدُّ منصب وزير الخارجية من المناصب المهمَّة ذات المسؤوليات الجسام التي تتطلب من شاغلها التميز برباطة الجأش واللباقة، وسعة الاطلاع، والكياسة، وقوة الأعصاب، وحسن التصرف.
صدر الأمر الملكي عن الملك خالد بن عبد العزيز - رحمه الله - رقم أ/55 بتاريخ 17/3/1395هـ بتعيين صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - وزير دولة للشؤون الخارجية كخير خلف لخير سلف، ثم عين وزيرا للخارجية في التشكيل الوزاري للحكومة التي خلفت حكومة الملك فيصل بتاريخ 8/10/ 1395هـ. لقد كان الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - بصفته عميد الدبلوماسية السعودية من الموضوعات المهمَّة للدولة السعودية، لذلك كنت أتابع تلك المرحلة لأن الأمير الراحل صديق عزيز على قلبي وإنه صدوق ومخلص لذلك أبادله المحبة والتقدير.
وشارك الأمير سعود الفيصل - رحمه الله - في اجتماعات وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي السادس في جدة وهي المرة الأولى التي يشارك في تلك اللقاءات، وتم اختياره بالإجماع رئيسا لهذه الدورة التي عقدت من الثالث إلى السادس من رجب 1395هـ الموافق 12 إلى 15 يوليو 1975م.
وقال في كلمة بالمؤتمر: إن لأمتنا الإسلامية تطلعاتها نحو مستقبل أفضل، وللإِنسان المسلم تطلعاته في أن يشعر بانتمائه لأمة واحدة. وأكَّد أن سياسة حكومة المملكة العربية السعودية والاستمرار على نهج سياسة الملك فيصل - رحمه الله - في دعم التضامن الإسلامي وبذل كل جهد في سبيل العمل على ما فيه رفعة الإسلام وإعزاز شأن المسلمين وأساس سياستنا الخارجية على كتاب الله تعالى القرآن الكريم، لذلك حقق الأمير الشاب وجوده في هذا المنصب الحساس.
وكان لي لقاء مع الأمير سعود - رحمه الله - في نهاية الجلسة وكان في يدي نسخة من جريدة الحياة اللبنانية التي تصدر من بيروت، وعندما صافحته خطف من يدي اليسرى الجريدة قائلاً: شكرا أخ مطيع على هذه الصحيفة وكنت أنتظرها للاطلاع على محتوياتها عن منظمة المؤتمر الإسلامي الذي نجتمع لشأنه. وتكرر هذا المشهد مع الوزير سعود الفيصل - رحمه الله - في أكثر من مناسبة وأنا مسرور لأن أجمل عطايا الله تعالى أن يكون لي صديق مخلص يمنحنا الحب لذاته.
وكان التمثيل الدبلوماسي الدائم في المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبد العزيز - طيَّب الله ثراه - واهتمامه المتواصل بعد أن تم استسلام مدينة جدة وترحيبها بجلالته يوم السابع من شهر جمادى الأولى 1344هـ الموافق 14 كانون الأول 1925م مسترشدا بمبادئ الشريعة السمحة وسنة الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - في سياسته وتصرفاته الدبلوماسية القائمة على الصدق وحفظ العهود والعدل. واستطاع بحكمته ورجاحة بصيرته وحسن تصرفه واحترامه للعهود أن ينال احترام جميع الدول على المستوى العربي والإسلامي والدولي، يقول الملك عبد العزيز: «أنا لست من رجال القول الذي يرددون اللفظ بغير حساب، فأنا رجل عملي، فإذا قلت فعلت، وعيب علي في ديني وشرفي أن أقول قولا لا أتبعه بالعمل، لأن هذا شيء ما اعتدت عليه ولا أحب أن أتعود أبدا». وكان الملك عبد العزيز مكافحا لمبادئ الشيوعية والصهيونية والاستعمار. واتخذت الدبلوماسية وسيلة مثمرة لتسهيل التبادل الودي بين الأمم وتوثيق الصلات الثقافية والتجارية وتبادل للأسرى وفض المنازعات وتوقيع اتفاقيات سلام.
وكان للملك فهد مكانة رئيسية في صنع القرار السياسي بالمملكة. وحدد بعد مبايعته ملكا رؤيته للسياسة الخارجية للمملكة تقوم على أن المملكة العربية السعودية هي واحدة من دول أمة الإسلام، هي منهم ولهم، نشأت أساسا لحمل لواء الدعوة إلى الله ثم شرفها الله يخدمه بيته وحرم نبيه، فزاد بذلك حجم مسؤوليتها، وتميزت سياستها وتزايدت واجباتها تتمثل فيما أمر الله به من الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وحدد خادم الحرمين الشريفين أن سياسة المملكة الخارجية تقوم على التعاون مع المجتمع الدولي من خلال ثلاث دوائر هي:
الأولى: دائرة جامعة الدول العربية تحيط بالأمة العربية ونرسم حدود نشاطنا معها ونتعاون مع أشقائنا العرب على جمع الكلمة ورأب الصدع لوحدة الصف العربي ليكون دائرة قوية فعالة.
الثانية: الدائرة الإسلامية وقد انطلقت من هذه الديار دعوة التضامن الإسلامي، فثار ضدها الشرق والغرب. وحاولوا وأد الفكرة من مهدها، ولكن عزيمة المخلصين من قادة المسلمين مكنتنا فأنشأنا منظمة المؤتمر الإسلامي ومؤسساتها، وهذه كانت سياسة الملك فيصل رحمه الله.
الثالثة: المحيط الدولي الشامل داخل هيئة الأمم المتحدة والانضمام للمعاهدات الدولية والإقليمية وتبادل التمثيل الدبلوماسي في مبادئ القانون الدولي، أو مبدأ المعاملة بالمثل.
لذلك اختار الأمير سعود الآية الكريمة: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ( سورة النحل، الآية: 125). وهذه الآية وردت في خطاب خادم الحرمين الشريفين تغمده الله بالرحمة. ووضعها الأمير سعود في مكان بارز في وزارته للتقيد بمبادئها، وتعامل الوزارة بها مع أعضاء السلك الدبلوماسي، كما عمم نسخة للدكتور محمد عمر مدني السفير ومدير معهد الدراسات الدبلوماسية بهدف تعميم تلك المبادئ لأعضاء السلك الدبلوماسي العربي والدولي المعتمد في وزارة الخارجية.
ووضع عميد الدبلوماسية الكتاب الأول من سلسلة البحوث والدراسات عن العلاقات الدبلوماسية للمملكة العربية السعودية والكتاب الثاني عن العلاقات القنصلية للمملكة العربية السعودية. وتلك البحوث كانت حديثة. وقدم الأمير سعود للكتابين بكلمة أشاد فيها بالتعاون مع أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد بصفته رئيس مجلس معهد الدراسات الدبلوماسية، وأشار إلى ان المشاكل التي كانت تهم المجموعة الدولية حتى الماضي القريب، كانت قاصرة على قضايا الحرب والسلام وسياسة القانون الدولي، إلا أن الوضع تغير بسبب التطور السريع في القضايا الدولية نظرا لاتساع إطار المجتمع الدولي بزيادة عدد أعضائه ومنظماته، وبالتالي كثرت المشاكل الدولية وعرضت قضايا جديدة على المستوى الدولي كتلك التي تتعلق بالطاقة، وباستخدام الفضاء مما ترتب عليه تطور خطير في النظم الدولية. وأكَّد سعود الفيصل أن رئيس الدولة يستعين بوزارة الخارجية فيما يتصل بالسياسة الخارجية.
هذه الدراسات من أهم أهداف معهد الدراسات الدبلوماسية والكتاب الذي نستعرضه قد تناول بحث موضوع جديد في فقه التعاون الدولي لم يسبق له مثيل، وهي بداية جادة وهذا المنهج الذي تدعو إليه المملكة العربية السعودية العلماء والباحثين، بعد أن أصبحت - بفضل الله - تحتل مكان الصدارة في السياسة العربية الإسلامية والدولية، وأصبح للقرارات والمواقف التي تتخذها دور مهم وإيجابي في النظامين العالمي والإقليمي.
وإزاء هذه المسؤوليات التي تتحملها المملكة والقضايا التي نذرت نفسها لخدمتها كان على ممثليها الدبلوماسيين أن يتزودوا بسلاح المعرفة المتجددة، وتظهر أهمية الدور الذي يقوم به معهد الدراسات الدبلوماسية في هذا المجال وهو يسير بخطى واسعة نحو تحقيق غايته.
وأسجل في هذا المقال ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب
وينصر دين الله أيان تضرب
أنت أنس لنا إذا بعد الإنس
وأنت الحياة والإحياء
لا تسلني ما دولة الفرس ساءت
دولة الفرس في البلاد وساؤوا
أمة همها الخرائب تبلي
ها وحق الخرائب الإعلاء
إنما الأرض والعوالم نورا
فالثرى مائج بها، وضاء
إنما الأرض والفضاء لربي
وملوك الحقيقة الأنبياء
لهم الحب خالصا من رعايا
هم وكل الهوى لهم والولاء
إنما ينكر الديانات قوم
هم بما ينكرونه أشقياء
هم حماة الإسلام والنفر البيض
الملوك الأعزة الصلحاء
نظمت أسامي الرسل فهي صحيفة
في اللوح واسم محمد طغراء
وعليه من نور النبوة رونق
ومن الخليل وهديه سيماء
وكنت في زيارة الأمير سعود في جدة وحدثني عن هذين الكتابين واتصل هاتفيا بمدير معهد الدراسات الدبلوماسية في الرياض وأبلغه تسليمي الكتابين الحديثين عن الدبلوماسية والعلاقات القنصلية، وقال لي الأمير سعود بالإمكان الاستفادة منهما للحديث عن أهمية هذه الأنظمة الحديثة في سياسة المملكة.
ولقد وضعت الكتابين في مكتبتي المتواضعة بتاريخ 20 ذو الحجة 1404هـ وعليهما تقديم وكلمة تقدير من مدير معهد الدراسات الدبلوماسية، كما حذر بأن حقوق التأليف والطبع والنشر محفوظة لمعهد الدراسات الدبلوماسية ولا يجوز التباس جزء من الكتابين أو إعادة طبعه دون موافقة كتابية من إدارة المعهد. علما بأن مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر هي التي طبعت الكتابين.
كان رحيل الأمير سعود الفيصل لدار البقاء ولقاء وجه الخالق العظيم خسارة كبيرة للمملكة العربية السعودية والعالم الإسلامي والدولي، ولا راد لإرادة رب العزة والجلال. وأقام عميد الدبلوماسية السعودية صداقات مع الدول، فهو يتصف بالبساطة والصراحة ولا يدعي العظمة والكبرياء، إنه شخص يحب الحياة، ويعرف كيف يستخدمها. إننا نحتاج إلى أصدقاء أوفياء لكي نجدد شبابنا. إن صداقتي مع سعود الفيصل مضى عليها سنوات وسنوات بلغت 45 سنة، ونشعر بأننا مقبولون مع بعضنا كليا. وأكرر كانت صداقتي مع أبا محمد منذ منصبه نائبا لوزير البترول ثم وزير الخارجية، هذا الصديق الودود رغم تخالفنا في السن وأيضاً ما يحمله الأمير الراحل من شهادات جامعية عليا في الاقتصاد وفي الأمور السياسية. رحمه الله وأسكنه جنات الخلد وألهم عائلته وأبناءه وإخوانه وأخواته الصبر والسلوان و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
وإلى اللقاء