د.عبد الرحمن الحبيب
شاب صومالي غامر بحياته مع المهاجرين في قوارب متهالكة من جنوب البحر المتوسط إلى شماله.. تهرَّب بين الدول بكل عذابات الحدود حتى وصل بريطانيا.. سألته المراسلة البريطانية بعدما ضبطه حرس الحدود: ماذا تريد هنا؟ قال بكبرياء:
مصدر رزق لأهلي، إنهم ينتظرون تحويلاتي المالية!
فقالت: هل وجدتها؟ أدار وجهه جانباً، كفكف دموعه كي لا ترصدها الكاميرا فلا زال بعض كبريائه صامداً رغم ما واجهه من إهانات في طريقه الطويل الشاق، وردَّ عليها بحيرة الحزين: قالوا إنهم سيطردونني، لا أدري أين أذهب، لكن وجدت في الإنترنت أنّ داعش تعطي راتباً مجزياً، سأذهب إليهم.. قالت هل تعرف أنّ داعش تنظيم إرهابي، وأنك غالباً سوف تُقتل هناك؟ قبل أن يجيبها انهمرت عيناه دمعاً... سأدع إجابته لخاتمة المقال..
العولمة تندفع منجرفة صاهرة حضارات وقيم العالم في قوالب جديدة لعالم واحد يكسر الحدود والقوميات. ثمة رابحون وخاسرون، والخاسرون سيحتجون، بطبيعة الحال، إنما حدة التغيير المتسارع صدمت المحافظين.. كثير منهم يقاومها سلمياً، إنما قلة مالوا للعنف ليس فقط على النمط الحديث (السلاح الأوتوماتيكي) بل صاحبه النمط القديم (السكين) إمعاناً لرفض الجديد، وتبشيراً بالعودة للقديم حتى بأشكاله الوحشية، كذبح الأسرى وحرقهم وإغراقهم وبيع السبايا وفتح أسواق الرق، وإيقاظ طائفية قديمة.. ناهيك عما نراه ثقافياً من إحياء الخرافات والنعرات.. إنه الحنين الفتَّاك إلى ماضٍ يتبخر سريعاً بتقنيات لا تقل فتكاً.. الحنين إلى تاريخ مات يترآى بالأحلام جميلاً.. ربما يعود بمعجزة.. حالة إنكار يسلكها المصدوم بداية الصدمة.. لكنها صدمات متتابعة تُحرض المصدوم على العنف..
العنف أيضاً قد يصدر من الرابحين حين يستضعفون الخاسرين. فالعولمة زادت الهوة بين الأغنياء والفقراء.. وبين الشركات العابرة للقارات والمؤسسات المحلية، وشرَّعت رأسمالية كونية تحمي الأغنياء على حساب الفقراء، تحمي دول الشمال على حساب الجنوب.. فيما شركات تصنيعها الحربي توفر للأفراد والجماعات أحدث الأسلحة المدمرة حتى صار السلاح متاحاً في مناطق الاضطراب أكثر من الطعام والدواء.. اقتل كي تعيش!
ليس هذا مقالاً لذم للعولمة فمنافعها عظيمة، إنما تلك من آثارها الجانبية، والآثار الجانبية للدواء أحياناً تفوق آثاره العلاجية.. العالم الآن يهتز بارتجاج لم يسبق له مثيل.. من زئير نمور شرق آسيا، وصعود الصين والهند كرائدين محتملين للاقتصاد العالمي إلى قلاقل شرق أوربا والتوترات الاقتصادية في جنوبها، وما بينهما النزاعات المستشرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. عالم سريع التقلب والمفاجآت.. خارج عن تفكيرنا المألوف، والأخطر أنه خارج عن السيطرة المعتادة..
لم يعد أحد مطمئناً حين ينهار اقتصاد دولة ثابتة الاستقرار من زمرة العالم الصناعي المتقدم كاليونان. لم يعد أحد مطمئناً إذا كانت دولة متوجهة بثبات نحو التنمية والديمقراطية كأوكرانيا، صارت فجأة دولة فاشلة تعاني التمزق والنزاعات. إذا كان بلد كالعراق يمتلك كافة مقومات الدولة المتفوقة من تاريخ عظيم وكفاءات بشرية وموارد ضخمة نفطية ومائية وزراعية ومن كل شيء تقريباً، يعاني أسوأ ما يمكن أن تمر به المجتمعات من انهيار. بل خذ أمريكا كيف صارت تتعرض شوارعها ومدارسها بشكل دوري لأعمال قتل جماعي دون مبرر حتى لو كان غير مقنع؛ فضلاً عن أنّ المساجد ودور العبادة حول العالم خاصة الشرق الأوسط وأفريقيا أصبحت هدفاً للقتل من خلايا كانت نائمة أو ذئاب منفردة..
كانت الذئاب المنفردة تعوي في البراري تائهة.. فرد متطرف شذ وانطوى على نفسه بين الناس، لكنه الآن صار يجد بالإنترنت أضرابه.. لم يعد وحيداً، فهناك من يرحب مؤيداً بعواء يشابهه. كان الفرد البائس الذي يرغب في عمل انتحاري نادراً ما ينفذ عمله لأنه لا يؤثر على الاستقرار الاجتماعي إلا لحظياً، مثلما حدث قبيل ظهور الإنترنت في هجوم الغاز السام في ميترو طوكيو (1995) أو في ذات السنة تفجير أوكلاهوما.. صار أمثال هؤلاء نجوماً في سماء العولمة..
قلب العولمة النابض يضخه الإنترنت، يفجر المعلومات في شرايين العالم متدفقة للجميع أكثر مما كان متوفراً للدول.. وأصبح شذاذ الآفاق يلتقون بسهولة في تنظيمات، أغلبها ليست تنظيمات متطرفة، ولكن صار للتطرف سهولة التنظيم والتنفيذ. ذئب منفرد واحد يمكنه إحداث قلاقل كبرى لدول لأنه لم يعد معزولاً كالسابق، بل صار يشكل حلقة في سلسلة مرعبة لا تنتهي. يقول مارك هيكر (الباحث في النشاط الجهادي بالإنترنت) إنّ داعش بارع في الشبكات الاجتماعية، ويتصيد آلاف المقاتلين الأجانب في صفوفه، بينما رد الدول لا زال بطيئاً ومحدوداً، فيما يرتبط نحو خمسين ألف حساب تويتر بداعش (دراسة معهد بروكينغز)..
لم تعد الدولة متفوقة على الأفراد والجماعات في المعلومات، ولم تعد الطرق التقليدية في التحكم بها أو مواجهة الجماعات المتطرفة بذات الجدوى السابقة. جماعة صغيرة أو حتى فرد واحد صار يمكنه اختراق نظم المعلومات السرية في البنتاغون الأمريكي محدثاً قلقاً ورعباً، ومستنفراً جهازها الاستخباري الأكبر في العالم..
ثمة عامل آخر ساعد الارتجاج العالمي، إنه التغير السكاني الحاد.. السكان يتقلصون في الدول الصناعية الغنية، بينما يزيدون في الدول النامية الفقيرة بصراع حاد على الموارد بين الجماعات.. صراع على بقايا اقتصاد رثّ بإدارة فاسدة. في هذا الزحام يتوق الناس للهجرة.. مهاجرون يتجاوزون البحار الغامرة بقواربهم المتهالكة فيغرقون بلا منقذ ولا نائح على موتهم غير وكالات الأنباء تعطينا رقماً جزافياً لعددهم.. لا أسماء ولا هويات.. ومن تبقى منهم يعبرون الحدود الشائكة بأجسادهم العارية.. خلفهم الموت وأمامهم أمل ضئيل..
تضرب عالم الشمال أمواج من مهاجرين غير شرعيين لكنهم موجودون بقوة الحضور الجسدي.. فقانون الدول المتقدمة يحميهم إذا وصلوا، هكذا يقولون.. الوصول إلى ماذا؟ إلى مصدر رزق.. هل وجدوه؟ ربما، فلا أحد يعبه بهم، لذا تشكلوا في جماعات منعزلة تحنُّ للرجوع لماضيها، فأوصل الإنترنت بعضهم لداعش أو غيرها..
أما الشاب الصومالي المهاجر بفاتحة المقال.. فعندما قالت له المراسلة كي تؤنب ضميره، إنّ داعش الذي وجده في الإنترنت تنظيم إرهابي، وأنه سوف يُقتل هناك بلا قضية؟ قال وعيناه تدمعان: ماذا أفعل.. ثم همهم بحيرة حزينة: ربما هذا أفضل من الموت جوعاً في عالم شبعان...