محمد آل الشيخ
يبدو أن (التغريب) أصبح حجة من لا حجة له، فمن خلال متابعتي للحركيين المتأسلمين، وتحديدا (السلفيين المتأخونين) والمتشددين منهم، وجدت أنهم إذا افتقدوا الدليل، وأعيتهم الحجة، وعجزوا عن تأصيل حرمة شأنٍ من شؤون التنمية تأصيلا شرعيا، من الكتاب والسنة، لجؤوا إلى امتطاء بغلتهم المتهالكة العرجاء: القول (بالتغريب)، فناهضوه، وهجوه، وقالوا فيه ما لم يقله الإمام مالك في الخمر، دونما دليل، أو كأن الغرب وثقافته المتفوقة، ونهجه الحضاري المُبهر، ضربٌ من ضروب إفساد الدنيا والدين.
تاريخيا، أول من استخدم هذه الحجة الواهية (القوميون) من عرب الشمال اليساريين تحديدا، في مناهضة الغرب اليميني، وممالأة لثقافة الشرق اليساري؛ فكان (التغريب) بمثابة المعول في يد (الثورجية اليساريون)، وبعد هزيمة ثقافة اليسار عالميا، بسقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي، وانتهاج الصين النموذج الغربي المتمثل في اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية، ورث هذا المصطلح الثوري (جماعة الإخوان) في مصر، قبل أن يدلف بعض أساطينهم إلى المملكة والخليج، ويؤخونون سلفيينا، ومعها مناهج التعليم الديني في مدارسنا وجامعاتنا؛ ومن ضمن ما باعوه علينا من مصطلحات الإرث الثوري الكاسد، مصطلح (التغريب)، على اعتبار أن (الغرب) أعداء الدين، رغم أن الغربيين، بالنسبة لنا تحديدا، هم مَن اكتشف لنا النفط فأصبح لنا بسببهم مكانا تحت الشمس وكنا قبلهم نسيا منسيا، نقتات العوز والفقر، وتقتاتنا الأمراض والأوبئة؛ في حين أن الغرب بالنسبة لهم مستعمر، امتص ثرواتهم، وأقام المشانق لثوارهم حين طالبوا بالحرية والاستقلال.
والغرب يهمه مصلحته، وتفوقه الحضاري، ولا شأن له بالأديان؛ فموقف الغرب من الأديان موقف (علماني) محايد؛ لذلك تجد أن في أوربا الغربية من المسلمين زهاء الأربعين مليون نسمة، موزعين على دولها المختلفة، وفي الولايات المتحدة زهاء الثمانية ملايين، جميعهم مهاجرون أو أنهم ينحدرون من سلالات لمهاجرين، فلو كانوا يعتبرون المسلمين أعداء، والإسلام عدو، كما يزعم الإخوان ومن تأخون معهم، لما تلقوهم، ومنحوهم جنسياتهم، فأصبح المسلم مواطنا(غربيا) له ما للمواطن الغربي من حقوق، وعليه ما على المواطن من واجبات.
والتغريب يستعمله اليوم المتأخونون الخليجيون تحديدا، لإعاقة التنمية، وإبقائنا في القاع متخلفين؛ خذ - مثلا - موقفهم من عمل المرأة، فمن البديهيات التي لا يجادل فيها إلا (الهنقل)، أن لا حضارة تنموية، واستغلال لسواعد الشعوب لبناء الأوطان وتنميتها، إلا بعمل المرأة، التي كانت تشارك الرجل في عمله طوال التاريخ الإسلامي. هذا الشأن التنموي الهام في مسيرتنا التنموية، رفضوه، وتمادوا في رفضه، دونما دليل، وأرجعوه إلى بغلتهم العرجاء (التغريب) الذي ما أنزل الله به من سلطان.
وعندما يحاربون (البهجة)، ويُضيقون عليها، ومثلها السياحة الداخلية، يلجؤون إلى ذات (البغلة) إياها، ليمتطوها مجعجعين.. ففي مباراة (السوبر السعودي) قبل أيام في لندن حضرها الرجال والنساء، واستمتعوا بالتشجيع، وعادوا من تلك المباراة دون أية سلبيات أخلاقية، فلماذا تمنع المرأة من التمتع بحضور المباريات هنا؟.. يجيبون: إنه (التغريب) !!.. المضحك أن هذه الحجة أوهى من بيت العنكبوت؛ فأتذكر في الستينيات والسبعينيات، في (الطايف)، حيث كان السعوديون يصطافون، كان (لزز الخيل) - كما كنا نسميه - وهو سباق الخيل، أحد أهم فعاليات الموسم الصيفي الرياضية آنذاك، وكان الرجال والنساء معا يحضرون هذه الفعالية، ولم يمنعهم أحد؛ فما الفرق، وما الذي تغير؟.. الذي تغير أن (المتزمتين) هم من طفوا على السطح، وسيطروا على المشهد، وأخلى (المتسامحون) لهم الساحة، خوفا من ألسنتهم الحداد، فسيطروا على الصوت الديني فلا تكاد تسمع إلا أصواتهم، وتسنموا سنام الفتوى، فأصبحنا، وأصبحت تنميتنا الاجتماعية بمعناها الشامل، ضحية للتزمت والتشدد والمتشددين.
صدقوني أن مجاملة ومراعاة هؤلاء المتزمتين، وتضييق الحلال والحرام على اختياراتهم واجتهاداتهم (فقط)، وإقصاء التسامح والتفهم لظروف العصر ومستجداته، وبالذات التنموية، سيلقي بنا إلى التهلكة الاقتصادية تحديدا، فلا حل لنا للتخلص من عللنا المتخلفة إلا التنمية، والتنمية تعني أن (نواجه) أولا ثقافة التخلف، ونُحجمها؛ فالإسلام المتسامح هو الذي سيبقى، والإسلام المتزمت لا يمكن أن يقاوم عجلات الحضارة، مهما حاول المتزمتون وجعجعوا.
إلى اللقاء..