محمد بن عيسى الكنعان
الأعمال البطولية التي تقدمها أجهزة وزارة الداخلية السعودية في مكافحة الإرهاب، وجهودها الخيرة المبذولة، سواءً على مستوى الضربات الاستباقية للتنظيمات الإرهابية، أو الملاحقات الأمنية في بؤرها الشيطانية، وخلاياها النائمة، ينبغي تعزيزها بجهود إعلامية،
... وأعمال اجتماعية، وأدوار فكرية، وتعليمية. فالعملية الأمنية مسؤولية مشتركة بين الجميع، من أكبر مسؤول إلى أصغر مواطن، ولعل أبرز الأدوار الاجتماعية المكملة لعمل أجهزتنا الأمنية هو دور الأسرة، من خلال (التربية الوقائية) للأبناء البنات، خاصةً أن تنظيم (داعش) الإرهابي الذي ابتليت فيه هذه الأمة وصار سيفاً عليها، يعمل على تجنيد صغار السن والشباب والمراهقين، بغزو عقولهم، وتزيين أعماله الشيطانية في عيونهم على أنها أعمال دينية لخدمة الإسلام، وهي أعمال إرهابية، وجرائم إنسانية، توردهم المهالك، وتحيلهم إلى قنابل بشرية تفجر في كل مكان، حتى بيوت الله لم تسلم من شر كلاب النار.
التربية الوقائية التي أعنيها لا تقف عند مراقبة أولادنا، ومتابعة تصرفاتهم، سواءً على مستوى الواقع الحقيقي أو الافتراضي (الإلكتروني)، كما لا تقف عند التعرف على أصدقائهم ومن يخالطون، والأماكن التي يرتادونها، فهذه الأمور من متطلبات الأمانة في تربية الأبناء ابتداءً، وينبغي أن يقوم بها الوالدان بشكل تلقائي. إنما تقوم التربية الوقائية -بالدرجة الأولى- على إسقاط كل الحواجز النفسية والعائلية بين الوالدين والأبناء، بحيث يمكن للأب أو الأم التغول في تفاصيل حياتهم، فيكون الأبناء والبنات كتباً مفتوحة وأصدقاء فوق العادة، وبالتالي يعرف الوالدان حقيقة فكرهم، ومستوى وعيهم بما يحيط بهم من قضايا وأحداث، وما يتلقونه عبر وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي من أخبار ومعلومات. وهذا لا يتحقق إلا بالاقتراب أكثر من الأبناء والبنات، من خلال وسائط التواصل الاجتماعي كـ(الواتس اب) مثلاً، ورحلات السفر والسياحة العائلية، والاستجمام العائلي الأسبوعي أو الشهري في الاستراحات والشاليهات، وتناول العائلة للعشاء خارج المنزل، وغيرها من أنشطة وملتقيات عائلية تعزز الترابط الأسري، وترفع مستوى الشفافية بين أفراد الأسرة الواحدة.
بعد ذلك؛ يمكن للأب والأم تطبيق التربية الوقائية مع أبنائهم وبناتهم عبر (التعاملات الذكية). وهي في تقديري تتمثل بثلاثة مسارات، أولها؛ معرفة نظرتهم للواقع وكيفية حكمهم عليه، فلابد أن نعي تماماً كيف ينظر أبناؤنا وبناتنا للواقع، الذي يعيشونه بكل تفاصيله، ومن ثم نتلمس حكمهم عليه، ولا يكون ذلك بالأسئلة المباشرة، إنما بالأحاديث المفتوحة، التي تتناول مجريات الواقع، بحيث يكون في سياقاتها استفسارات أو أسئلة غير مباشرة، خاصةً عندما تقع أحداث مؤسفة، أو نسمع أخباراً مؤلمة لبلدان حولنا تعيش اضطرابات، فتدع بنتك أو ابنك يعبر عن رؤيته بكل تجرد، وبالتالي يمكن أن تحدد اتجاه تفكيره أو رؤيته الشخصية لهذا الحدث، وبعدها يمكنك تصحيح رؤيته بشكل منطقي إذا كان فيها غبش أو خلل فكري، دون تسفيه أو سخرية، كي يقبل ما تقول ويتأثر به.
ثانيها؛ معرفة طريقة تفكيرهم ومنهجية تحليلهم لما يسمعون ويشاهدون، وذلك من خلال التدقيق في طريقة طرح ابنك، أو بنتك لوجهة نظره في مسألة أو حادثة أو قضية، بحيث يتضح لك هل طريقة تفكيره قائمة على العقلانية أم العاطفة؟.. ومن ثم تستطيع أن تعرف هل يحلل ما يرى ويسمع بشكل عقلي ومنطقي، وبناءً على معلومات صحيحة وغير مضللة، أم هو معطل التفكير، ويعتمد العاطفة، وينساق وراء الأخبار أو المعلومات التي يتلقاها دون وعي أو تمحيص، فيكون مجرد ناقل لوجهات نظر الآخرين، سواءً كانت سلبية أو إيجابية. ومن ثم يكون أسير رؤية الآخرين، حتى يتطور الأمر لديه إلى تبني كل أطروحاتهم وأفكارهم.
ثالثها؛ معرفة طبيعة تصوراتهم الدينية وأفكارهم الثقافية، وكيفية تطبيقاتهم لها على أرض الواقع؟ وهذه هي الأسس الفكرية للتربية الوقائية، من خلال التأكد أن أبناءنا وبناتنا يحملون تصورات دينية صحيحة، وأفكاراً ثقافية متزنة، فلا يستسهلون إطلاق (التحريم) على حالات أو ممارسات، ولا يتبنون منهج (التكفير) في تعاملهم مع الأشخاص الذين يخالفونهم، سواءً في المسائل الفكرية، أو الرؤى التنموية، أو المواقف السياسية، لأن التكفير دون حق، أو دليل، أو مسوغ شرعي يؤدي إلى العنف والتفجير، كما أن التحريم دون علم، أو إجماع، أو نص ديني يؤدي إلى التشدد والتطرف عن الحق، فيتطور الأمر مع الابن إلى الانعزال عن عائلته، ومجتمعه. ولعل أغلب الجماعات والتنظيمات الإرهابية وجدت مرتعها الشيطاني، من خلال الإفراط بالتحريم لكل ما يقع في دائرة الاجتهاد بالدين، أو الاختلاف الفقهي بين المسلمين، بحيث تضع في وجدان الشاب المستهدف للتجنيد الإرهابي أن هذه الحكومة، أو هذا المجتمع أحلوا ما حرم الله، فيسهل بعد ذلك تكفير هذه الحكومة أو ذاك المجتمع، لتبرير استباحة الدماء المعصومة والمستأمنة. وهذا ما يحصل الآن من قبل تنظيم (داعش)، الذي راح يفجر في أي مكان، حتى بيوت الله التي تُعد الأماكن الآمنة على مدار تاريخ الأمة لم تسلم من العمليات الإرهابية، من خلال شباب تم غسل أدمغتهم بمنهج التكفير بعد عزلهم عن عائلاتهم ومجتمعهم عبر الواقع الافتراضي، فلنكن حول أبنائنا وبناتنا، فالتربية ليست أكل وشرب وتعليم، إنما قبل ذلك دين وفكر وثقافة ينبغي حمايتها.