عمر إبراهيم الرشيد
لم تهدأ وتيرة الهجرات البشرية من جنوب الكرة الأرضية إلى شمالها منذ سنوات، بل هي في ازدياد مهول في السنوات الأخيرة.. ينبئ هذا الزحف البشري عن دول المهاجرين وكيف تصطلي بنار حروبها وفقرها وأمراضها، ليفر من استطاع من أهلها إلى واحات الأمان والكفاية الموعودة في أوروبا، فهل هي الدورة التاريخية وأوان تسديد الفاتورة الأوروبية لدول سبق واحتلتها واستغلت خيراتها وماتزال تفعل في بعضها.
... وهل هي نتاجات انهيار نظام الأسرة ومؤسسة الزواج في الفكر الغربي المعاصر واعتماد العلاقات العابرة بديلاً، ومن ثم تناقص السكان في دول صناعية تحتاج إلى اليد العاملة، كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا التي تشهد تناقصاً في عدد سكانها الأصليين، ومن ثم تسهل عمليات الهجرة إليها لتعويض التناقص المطرد في سكانها، أم أن الدوافع إنسانية باعتبار المستويات الاجتماعية والاقتصادية والطبيعة الديمقراطية التي تتحلى بها دول غربية عدة كألمانيا والنمسا مثلاً؟.. هذه أسئلة ولعلها تحمل أجوبتها، وكما قلت فالتاريخ والدول دورات وأيام والعالم يعيش حالياً فترة انتقال وتغيرات في الجغرافيا السياسية والبشرية.
أما مشكلة اليونان التي باتت شوكة في خاصرة دول اليورو كما يطلق على دول الاتحاد الأوروبي، فهي دفع أثمان باهظة من قبل الدول الغربية الصناعية إلى دول ضمتها إلى عضويتها فأرادتها أن تكون نسخاً منها دون مراعاة الفوارق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً وبكبسة زر.. والمعروف أن مشكلة اليونان أنها لم تستوف متطلبات الانضمام الاقتصادية، كما لم تقدم صورة حقيقية لبياناتها ووضعها الاقتصادي، بينما جرتها دول اليورو إلى فورانها الاقتصادي ونمطها الاستهلاكي وقروضها حتى استفحل داؤها وانكشف أمرها فورطت معها دول اليورو، فكان على الأخيرة دفع الأثمان وإلا سحبتها اليونان معها إلى الهاوية.. إنه توحش الرأسمالية في وجهها المادي، إنما الجشع والنهم ثمنه باهظ والتسرع في البناء لابد أن ينتج أخطاء فيه، كما وأن محاولة وقف عجلة التاريخ كمحاولة قبض الريح.
الهجرات من دول عربية وإفريقية إلى الشمال الأوروبي سوف تحدث تغيرات اجتماعية وديمغرافية في دول المهجر لا محالة، حتى أن بعض المحللين يتوقع أن تصبح ألمانيا بعد عقود قليلة دولة إسلامية.. وحين نتحدث عن هذه الهجرات نستذكر تاريخياً هجرات عرب الأندلس طوعاً وقسراً من إسبانيا إلى دول المغرب العربي جنوباً بعد سقوط غرناطة آخر ممالك العرب والمسلمين هناك، فهي دورة التاريخ كما قلت.. إنما لا ننسى أن الهجرة خلاص لمن ينشد الخلاص وبدء حياة جديدة بعيداً عن الحروب والويلات، وهي تبادل للمنافع في إطارها الإنساني العام وفرصة لمن يعتبر الدولة التي استقبلته إنما هي أرض جديدة في هذا العالم الواسع، بإمكانه الاندماج واقتناص الفرص دون أن تسيطر عليه فكرة الغربة بمعناها السلبي.
فبإمكان المرء حمل جنسية بلد المهجر دون فسخ هويته الأصلية تماماً، أو دينه أو ثقافته، بشرط احترام مهجره وموطنه الجديد، ومراعاة واجباته كما حقوقه امتناناً لاحتضان هذا البلد له.. إذا فالهجرات كما أنها ناجمة عن كوارث اجتماعية واقتصادية وسياسية كحال الهجرات في هذا الوقت العصيب، فهي ليست كارثية في أمدها البعيد، ألم تقم أمريكا على سواعد المهاجرين من أيرلندا وأوروبا وآسيا وإفريقيا، مع التذكير بالضحايا الذين يدفعون أرواحهم ثمن محاولة الوصول إلى شواطئ أوروبا هرباً من حياة العوز والحروب في دولهم، على أن تحدث قصص أولئك الضحايا الذين يبتلعهم البحر هزة في ضمير المجتمع الدولي كما يسمى، للقصاص ممن تسبب في هجرتهم حكومات أو أفراداً، والمساهمة في علاج أوضاع تلك الدول سياسياً واقتصادياً.. التاريخ أعظم أستاذ ولم ولن تتوقف عجلته حتى نهاية هذا العالم بأمر خالقه، وهو في أعنف دوراته وأحلكها حالياً والعبرة لمن اعتبر والله غالب على أمره.