عبد الله باخشوين
كانت العلاقات السعودية المصرية قوية ومميزة.. توجت بزيارة جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز وعدد من أنجاله - ومنهم الملك سلمان - لمصر إبان مرحلة الحكم الملكي في عهد الملك فاروق.
وكانت مصر توفد أكبر قافلة حج وتهدى المملكة كسوة سنوية للكعبة.. وتعاقدت المملكة معها لتطوير الخدمات الإدارية..حتى أننا أصبحنا ندير معاملاتنا وخطاباتنا الرسمية بـ((ورقة الدمغة)) وهي ورقة أو طابع يشبه طابع البريد سعره رمزي جداً.. لكنه يشبه عمل الإدارات والدواوين المصرية.
وتعاقدت على إيفاد المعلمين والأطباء والممرضات وغيرهم للعمل في مختلف مناطق المملكة.. وقد شهدت - أنا وأبناء جيلي - نتائج هذا العمل الذي أحدث تطوراً تعليمياً ليس أقله وجود ((مسرح مدرسي)) و((كشافة)) ودوري رياضي لكل الألعاب.. وحفل سنوي رياضي يقوم به ((القسم المخصوص)).. وكانت كل هذة الأنشطة تدار بشكل تنافسي بين مدارس كل مدينة.. وقد شهد معهد المعلمين بالطائف تخرج دفعات مدرسية الأولى على أيدي معلمين مصريين.
بل وصل الأمر إلى حد أننا كنا نغنى في الطابور المدرسي الصباحي ((بلادي بلادي)) لسيد درويش.
بما يعني أن العقل المصري دخل عقولنا ووجداننا.
ففي الأدب - مثلاً - كنت ترى رائدنا الأستاذ محمد حسن عواد.. لا يرى في نفسه سوى عباس العقاد.. وكنت تسمع عبدالفتاح أبومدين يتحدث مقلداً طه حسين.. حتى لتكاد تقول:- ((كأنه هو)).
وكنت تجد صراع الشعراء يدور كأنما بين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم فتجد حمزة شحاته ممثلاً فيه شوقي.. وتجد ممثلي إبراهيم.
أما الجيل الثاني الذي تصدر الصحافة في الغربية وكان متأثراً بأنيس منصور ومصطفى محمود.. وخير من يمثل المدرستين عبدالله الجفري الذي يعشق أنيس منصور.. وعبدالله مناع الذي ترك الطب أسوة بمصطفى محمود واحترف الكتابة والصحافة.
وفيما كنا صغاراً نتلقف مجلة ((سمير)) الخاصة بالأطفال.. ونكاد نؤكد أن مكتبة كبيرة مثل مكتبة ((الثقافة)) التي لها فروع في مكة وجدة والطائف.. كانت هي المصدر الأول لمدنا بكل مستجدات حركة الثقافة في مصر بدأ من الصحف التى تصل مرة كل اسبوع وانتهاءً باحدث الإصدارات الثقافية لـ(( الهلال - واقرأ)) وغيرها من أحدث كتب دور النشر المصرية المختلفة.
هذا يعنى أن مصر كانت هي الشريان الذي نتغذى منه.. وطبعاً كان الفضل هي تلك العلاقة المميزة للملك عبدالعزيز التي أسسها واستمرت خلال فترة حكم جلالة المرحوم الملك سعود.
نسيت أن أقول إن كل بعثاتنا الأولى للخارج كانت لمصر.. بدءاً من البعثات العسكرية لتخريج ضباط.. مروراً بالبعثات العلمية التي خرجت أطباء ومهندسين ورواد في مختلف المجالات بما في ذلك المجال الموسيقى حيث إن طارق عبدالحكيم أهم موسيقى لدينا في ذلك الوقت هو خريج مصر.. ونظم السلام الملكي بما تعلمه هناك.
طبعاً هذا الكلام لا يعني أن كل مناطق المملكة تأثرت بنفس الزخم ونفس المستوى - لكن الأمر يخضع للتفاعل الذي هو متباين بالضرورة بين منطقة وأخرى وبين فئات ثقافية وأخرى.
.. ثم ساءت علاقتنا بمصر.
ليس بعد الثورة مباشرة.. بل ظلت جيدة لعدة سنوات.
وإن تخللها شد وجذب.. إلى أن اتضحت نوايا جمال عبدالناصر.
الذي أراد أن تقوم في البلاد العربية ((ثورات)) شبيهة بتلك التي قام بها ((الضباط الأحرار)).. وكرس جهودة على ((الجيوش)) العربية باعتبارها قوة قادرة على الانقلاب.
وقد أحبطت المملكة أكثر من محاولة متأثرة بدعوى عبدالناصر.. وبعد نجاح الوحدة المصرية السورية ونجاح التأثير في اليمن بعد موت الإمام أحمد.. وصعود قادة مثل السلال والبيضانى وغيرهم في مواجهة حكومة ((الإمام البدر)) والتدخل المباشر للجيش المصري الذي ساند الحركة الانقلابية ضد الحكومة الشرعية.
اتضح موقف المملكة النهائي من خلال مواقف المرحوم جلالة الملك فيصل الذي تصدى للزحف الناصري وواجهة بعدة طرق وفي حين كان عبدالناصر ينادى بالقومية العربية.. دعم الملك فيصل الإخوان المسلمين وتبنى دعوته أكثر تأثيراً هي دعوة ((التضامن الإسلامي)).
وفي أثمرت الناصرية سقوط ليبيا بيد القذافي والسودان بيد النميري.. أثمرت دعوة التضامن الإسلامي بعد زيارات كثيرة لأفريقيا قام بها الملك فيصل لإخراج إسرائيل من دائرة الاعتراف بها في معظم الدول الأفريقية لكن الأمر المؤكد هو أن مصر القومية أخذت تحتضر بعد هزيمة 1967 وأن المملكة العربية السعودية بدأت تقود زمام الأمور العربية على المستوى الدولي وتحقق إنجاراً كبيراً اقتصادياً وإنسانياً أيضاً.
وتولى صدام حسين مهمة القضاء على فكرة القومية العربية.. وتولى غورباتشوف مهمة القضاء على الشيوعية.. وتصاعدت كل دعاوى التطرف.. في غياب أي فكر إنساني مستنير يصلح للالتفاف حولة لتبقى مهمة الدول الأساسية هي بناء مستقبلها في ضوء المصالح الحقيقية لشعوبها.. على أرضية واسعة يعمها السلام والأمن والتسامح.. بعيداً عن أوهام الواهمين وأحلامهم المريضة.