د. عبدالحق عزوزي
تعجبني كتابات المفكر العربي وعالم الاجتماع الكويتي الدكتور محمد غانم الرميحي، وهو يتمتع بلسان وقلم لا يعلى عليهما، وتحليل استراتيجي قلّ نظيرهما في كتاباته عن الكويت وعن الوطن العربي.
وقرأت مقالة قيمة له في جريدة الشرق الأوسط عنونها «سحر المغرب» والمناسبة مشاركته في مدينة مراكش الحمراء في احتفالية دورة الشاعر أبي تمام الطائي، والرميحي وصف المغرب «بالدولة المستقرة»، وسأحاول هنا في هاته المقالة أن أغوص أكثر في الأسباب والمسببات،... ويمكن إرجاع عوامل استقرار وتطور المغرب إلى ثلاثة أسباب رئيسية ألخصها فيما يلي:
- العامل الحضاري التاريخي: المغرب احتفل سنة 2008 بذكرى مرور اثني عشر قرناً على تأسيس الدولة الإسلامية الأولى فيه. وكان لفاس، أول عاصمة للمملكة، دور كبير في تأسيس الدولة المغربية والمواطن المغربي الذي عرف بانفتاحه وقبوله بالآخر أياً كانت ديانته. وكان من آثار توسيع فاس، ظهور حركة علمية، انطلاقاً من جامع القرويين الذي أسسته السيدة فاطمة بنت محمد الفهري المكناة أم البنين، عام خمسة وأربعين ومائتين للهجرة (859م) في عهد يحيى حفيد إدريس الثاني، ثم جامع الأندلس الذي أنشأته بعد ذلك أختها السيدة مريم، وكانتا قد وفدتا ضمن الأسر التي قدمت من القيروان إلى فاس في ذلك العهد. ويمكن القول إن المدينة أصبحت بفضل هذين الجامعين -لا سيما القرويين- عاصمة علمية تضاهي قرطبة في الأندلس، ومركزاً دينياً للفقه المالكي الذي اختاره المغاربة واستقروا عليه -إلى جانب العقيدة الأشعرية- ابتداء من منتصف القرن الثاني الهجري، حتى غدا من أبرز ظواهرهم الفكرية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق. واكتسبت مدينة فاس مركزية لا توصف، ليس بالنسبة للمغرب فحسب، ولكن للعالم الإسلامي كله، إذ غدت قبلة الفقهاء الوافدين إليها بأفواج كبيرة من كل حدب وصوب، لاسيما من القيروان والأندلس أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل الثالث، على نحو ما يحكي التاريخ عن وفود القيروانيين والأندلسيين الذين كانوا في معظمهم من الفقهاء المالكيين، ووفود اليهود الذين اضطهدوا في الأندلس، والرحالة والطلبة والعلماء من كل الديانات على نحو ما يُذكر عن قدوم جربير(Gerbert d›Aurillac) الذي هو البابا سلفستر الثاني، إذ يقال إنه زار فاس بعد منتصف القرن العاشر الميلادي، وأخذ الحساب عن علماء القرويين، وإنه هو أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا. ولم يكن غريباً في سياق هذا التطور المتنامي، أن تحتضن فاس جموع الوافدين إليها من مختلف الجهات، وأن تصهرهم في بوتقتها، وتدمجهم في مجتمعها المتحرك الجذاب، القابل لمثل هذا التفاعل الذي التقى فيه الأمازيغ بالعرب الوافدين من الأندلس والمشرق، وكذا بالأفارقة القادمين إليها من جنوب الصحراء، واليهود الذين أتوا من مناطق النزاع ووجدوا في المواطن المغربي قمة في التسامح وتجسيداً لروح الدين الوسطي المعتدل.
- طبيعة الشخصية المغربية التاريخية: وهي التي مكنت اليوم الفاعلين السياسيين والمجتمعيين داخل المجال السياسي العام، من إنجاح الميثاق السياسي والتعاقدي خلافاً لكل دول المنطقة، انطلاقاً من مبادئ التنازل والتوافق والثقة التي عليها نجاح الميثاق السياسي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة. وقاعدة التنازلات المتبادلة يجب أن تكون مقرونة بجهد فكري وميداني بل ورياضي يجعل كل الأطراف تعي حدود التنازلات وحساسية المجال التفاوضي السياسي. كما أن ذلك يستلزم ثقة متبادلة بين الأطراف ومخرجاً عقلانياً حتى تصبح المعادلة إيجابية، وإذا كانت سلبية فإن الآليات الديمقراطية تتلاشى وتتلوث...
- ثم هناك الموقع الجيوستراتيجي للمغرب كدولة مغاربية وعربية تقع في شمال أفريقيا وبقيت لقرون صلة وصل بين ضفتي المتوسط وبين أوروبا وأفريقيا، فهو الذي نشر الإسلام في منطقة الساحل جنوب الصحراء، والعديد من دول أفريقيا اليوم تطرق باب التسامح والتكوين الدينيين المثاليين في المغرب، لتكوين أئمتها فوق التراب المغربي بما في ذلك دول مغاربية كتونس.
فهذه العوامل مجتمعة في نظري هي التي كونت الإنسان المغربي وطبعت قواعد الثقة والتسامح والتنازل في حياته اليومية، وهي التي أوصلت المجال السياسي إلى هو ما عليه اليوم من تقدم، والذي عليه مناط الاستقرار والثقة عند المستثمرين الدوليين.
وقد ألقى العاهل المغربي الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الملك والشعب والذي يصادف عيد ميلاده الثاني والخمسين خطابا هو في حقيقته تجسيد لعرش يمتد إلى أربعة قرون. وبعد مرور ستة عشرة سنة في الحكم، أصبحت للعاهل المغربي حصيلة في الحكم، وأسلوب خاص في معالجة المشاكل واستباقها، وفصاحة قل نظيرها تسبر أغوار الأمس واليوم، وتنبه عين القريحة عن سنة الغفلة والانحراف إلى درجة أن الجالس على العرش قطع الآلاف من الكيلومترات في الأركان الأربعة لمملكته، ووطأت رجلاه أراض لم تطأها أقدام أحد من قبل؛ وكان همه الأول ولا يزال محاربة الفقر والتهميش والفوارق الاجتماعية طيلة 16 سنة من حكمه.
وإذا تمنعنا في خطابه الأخير، نجد أنه زاوج بين الأمن الدائم للمملكة والتقدم التنموي والسياسي الذي لا يجب أن ينضب أبدا. لذا أكد العاهل المغربي أن المغرب سيظل كما كان دائما أرضا لاستقبال ضيوفه ولن يكون أرضا للجوء، مبرزا أن للمغرب أولوياته الداخلية، ويركز جهوده على معالجتها، ويعمل على رفع التحديات التي تواجهه من أجل تمكين المواطن المغربي من أسباب العيش الحر الكريم ووجه ملك المغرب تحية إشادة وتقدير لكل الأجهزة الأمنية على تجندها ويقظتها في التصدي لمختلف المحاولات الإرهابية التي تحاول يائسة المس بالنموذج المغربي، الذي يشهد العالم بتميزه... ثم اعتبر العاهل المغربي، وأيام قلائل تفصلنا عن انتخابات مصيرية، أنه إذا كان عدد من المواطنين لا يهتمون كثيرا بالانتخابات ولا يشاركون فلأن بعض المنتخبين لا يقومون بواجبهم على الوجه المطلوب، بل إن من بينهم من لا يعرف حتى منتخبيه...
وإذا أمعنا النظر في هاتين المعادلتين، فيصح لنا القول أن السلم الاجتماعي والأمن اللذين يعمان المملكة هو نتيجة سياسات استباقية حكيمة ليس فقط أمنية ولكن سياسية واستراتيجية بالدرجة الأولى. أولاها الميثاق السياسي والتعاقدي الذي وسم الحياة السياسية المغربية.
وهذا الميثاق التعاقدي يجب أن يطعم دائما ببذور جديدة ويسقى بوابل ليأتي أكله مرتين وإن لم يصبه وابل فطل؛ لذا نفهم الانتقادات الحادة التي وجهها العاهل المغربي إلى بعض الانحرافات التي قد تشوب الانتخابات الجماعية والجهوية المقبلة (04 شتنبر) فعليها مصير ومستقبل تسيير الشأن العام، خاصة أن12 مليون مغربي (أي ثلث سكان المغرب) في القرى والمدن مازالوا ضحية الفقر والتهميش، والبلاد في حاجة إلى مبادرة وطنية جديدة للتنمية البشرية كلفتها 52 مليون درهم مغربي، ولن تستطيع القيام بهذا العمل إلا نخب سياسية وتنموية منتخبة يكون همها وهدفها هو خدمة المصلحة العامة.
الديموقراطية تعني مما تعنيه انتخابات دورية وتداول في السلطة وتحقيق السلم الاجتماعي والأمن داخل المجال السياسي العام وهو ما نجح المغرب في تحقيقه، ولكن حاملي مشعل نتائج صناديق الاقتراع يجب أن تبث فيهم دماء تنموية، وروح ونفس جديدين.
المسألة الثانية: هو السلم الذي ينعم به المغرب مقارنة مع كل جيرانيه الأقربين. المغرب استطاع تحقيق الأمن الروحي والديني والاجتماعي للمغاربة انطلاقا من إرثه التاريخي والديني وإمارة المومنين، وطبيعة مذهبه المالكي المبني على الوسطية والتسامح وقبول الآخر... وهذا يعني أيضا تأمين حدوده والضرب على كل من سولت له نفسه خلق الفتنة وخرق سياج الأمن الذي ينعم به البلد...
المغرب قطع أشواطا متميزة يحسد عليها، وجلب الآلاف من المستثمرين الأجانب الذين وجدوا في البلد كل ما يمكن أن يجدوه متفرقا في عدة بلدان؛ والمغرب بتعبير شركات عالمية كرونو وبوجو لصناعة السيارات وبومبارديي لصناعة الطائرات والمستقرة حاليا في المغرب، هو عبارة عن جزيرة هادئة في محيط لجي... ثم إن هذا الميثاق السياسي الذي بلور، وبخاصة بعد تداعيات الأحداث الإقليمية والعربية لسنوات 2010 و2011 كان وعدا بدخول المغرب إلى نادي الديمقراطيات العريقة، ووقع الاتفاق مع الأحزاب السياسية التقليدية المتواجدة داخل المجال السياسي العام المغربي والتي كانت دون المستوى المطلوب.... والسياسة ليست لها قواعد ثابتة ولا لها عقود تأمين أو ضمانات، ولكنها في المقابل ذكاء ومهارة وقدرة على التكيف واستباق الأحداث والعواصف؛ وخطابات العاهل المغربي في السنوات الأخيرة كلها نقدية وسياساته استباقية واستشرافية لعبت حتى دور المعارضة في مجال سياسي عام يشتكي في بعض الأحيان من شعبوية أعضائه، وتقليدية أفكاره وفقدان روح التجديد المتكيف مع ضروريات العصر، وهذا هو العدو الحقيقي الذي يجب إصلاحه.