د. عبدالحق عزوزي
بحسب الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الأوروبي في بروكسل «يوروستات» الأربعاء الماضي، ارتفع الدين الحكومي في منطقة اليورو إلى 92.9 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، في نهاية الربع الأول من العام الجاري، مقارنة مع 92 في المائة في الربع الأخير من العام الماضي 2014، وفي مجمل دول الاتحاد الأوروبي ارتفعت النسبة من 86.9 في المائة إلى 88.2 في المائة.
أما مقارنة بالربع الأول من العام الماضي فقد ارتفع الدين الحكومي في منطقة اليورو من 91.9 إلى 92.9 في المائة، وفي مجمل دول التكتل الأوروبي الموحد من 86.2 في المائة إلى 88.2 في المائة، وشكلت سندات الدين نسبة 79.1 في المائة في منطقة اليورو و80.8 في المائة في مجمل دول الاتحاد، وشكلت القروض 18 في المائة و15.2 في المائة في منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي ككل. والعملة والودائع 2.9 في المائة في منطقة اليورو و3.9 في المائة في مجمل دول الاتحاد.
وعرفت دول عدة ومنها إيطاليا والبرتغال وبلجيكا ارتفاعاً كبيراً في الدين الحكومي مقارنة مع إجمالي الناتج المحلي، ووصلت النسبة في بلجيكا إلى 111 في المائة على حين بلغت النسبة في فرنسا 97.5 في المائة مقارنة بإجمالي الناتج المحلي، أما في إيطاليا فقد بلغت النسبة 135 في المائة، بينما ظلت مستقرة في ألمانيا عند نسبة 74 في المائة. وارتفع الدين الحكومي في هولندا من 67.9 في المائة إلى 68.9 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وبلغت النسبة في اليونان تقريباً 169 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة أقل من التي جرى تسجيلها نهاية العام الماضي.
وكانت دول منطقة اليورو، اتفقت من قبل، على عدم تجاوز الدين الحكومي للدول الأعضاء نسبة 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، ولكن باستثناء لوكسمبورغ وعدد قليل من الدول في شرق أوروبا والتي دخلت عضوية اليورو، لم تلتزم الدول الأعضاء بالنسبة التي جرى الاتفاق عليها.
ولكن رغم الذي يمكن أن يكتب ويقال فإن الاتحاد الأوروبي يشكل وحدة مؤسساتية ونقدية قل نظيرها، ومثل هاته الأزمات طبيعية في سيرورة مثل هاته التكتلات. وأي تكتل لا بد وأن تعتريه بعض المحبطات، المهم هو كيف يمكن أن يتجاوزها، وما هي الدول المحورية التي تعد مظلات حامية؛ وفي حالة الاتحاد الأوروبي تشكل ألمانيا وفرنسا (رغم ثلاث حروب قاسية بينهما في تاريخهما المشترك) الدولتين الرئيستين اللتين تقودان بطريقة غير مباشرة سفينة الاتحاد الأوروبي؛ وكل متتبع حصيف يمكن أن يلاحظ أنه كلما كانت هناك أزمة خطيرة في أي دولة من دول الاتحاد إلا واجتمع رئيسا البلدين في ظرف قياسي ووضعا خريطة طريق ذكية لمواجهتها قبل أن تجتمع مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
وهذا الاتحاد هو عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعاً سياسياً حقيقياً بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيي الأمم؛ ورغم تباين دولها من حيث درجة التقدم الاقتصادي والمالي والفلسفة السياسية والاجتماعية السائدة، فإنها استطاعت مجتمعة من خلال حكمة بعض من أعضائها والمبادئ الوحدوية السامية من إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وأسهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وتمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق هاته المنجزات وغيرها بفضل عوامل الثقة السائدة، وبفضل عوامل سياسية (على الدولة المترشحة للعضوية أن تتمتع بمؤسسات مستقلة تضمن الديمقراطية، وعلى دولة القانون وأن تحترم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات)، وعوامل اقتصادية (وجود نظام اقتصادي فعال يعتمد على اقتصاد السوق وقادر على التعامل مع المنافسة الموجودة ضمن الاتحاد)، وعوامل تشريعية (على الدولة المترشحة للعضوية أن تقوم بتعديل تشريعاتها وقوانينها بما يتناسب مع التشريعات والقوانين الأوروبية التي تم وضعها وتبنيها منذ تأسيس الاتحاد)، مما جعل من الاتحاد الأوروبي نظاماً سياسياً وقانونياً له طابع خاص.
وكم ظن ظان أن المشهد اليوناني الراهن وأزمة ديونه الخانقة التي فاقت 323 مليار يورو (جلها قروض من البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) سيكون النهاية للعديد من المسلمات؛ وبدأ ذلك تثير مخاوف منظري الاتحاد الأوروبي، لأن كيفية بداية أزمة الديون وتضخمها (جاءت هذه الديون نتيجة لجوء اليونان إلى الاقتراض من دون حساب أوائل الألفية الثانية، بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي الأمر الذي جعل التسهيلات الائتمانية أسهل بكثير، وشجع اليونان والدول الصغيرة بمنطقة اليورو على الاقتراض، فتارة لسداد العجز في الموازنة وتارة أخرى لسداد دفعات مستحقة للقرض الأول، حتى تراكمت عليها الديون نتيجة كثرة القروض وفوائدها)، وتأثيراتها على الحياة اليومية لليونانيين، وطريقة اختيار منتخبيهم (انتصار تسيبراس سواء في الانتخابات العامة في يناير الماضي أو في الاستفتاء الذي دعا إليه وطلب الشعب بالتصويت بـ»لا» على طريقة التعامل الأوروبي مع أزمة الديون اليونانية) تشكل مجتمعة لحظة فارقة في التاريخ السياسي والاقتصادي للاتحاد الأوروبي بل والاقتصاد العالمي، وهو ما جعل العديد من الخبراء يدعون إلى مراجعة الأدوات الاقتصادية التي هيمنت طويلاً.
اليونانيون رفضوا في استفتاء شعبي شروط الدائنين بفرض المزيد من إجراءات التقشف القاسية مقابل تقديم قروض جديدة لليونانيين، مما يطرح سؤالاً حساساً عن مخاوف هذا الرفض في أعين الإستراتيجيين حراس الاتحاد الأوروبي.
تلك المخاوف تكمن في أن الديمقراطية الأوروبية ستكون في خطر إذا قام هذا الاتحاد بازدراء نتيجة الاستفتاء في اليونان، والاتحاد الأوروبي قام على مسألة الديمقراطية السياسية الشعبية واحترام حقوق المنتخبين، كما أن اليونان هو البلد صاحب الحضارة العريقة التي تشكل أهم القواعد الثقافية والتاريخية للغرب.
في هاته الأزمة هناك المعطى المالي/ البنكي وهناك المعطى السياسي/الإستراتيجي في تفسير مستقبل أزمة اليونان بل مستقبل الاتحاد الأوروبي بأسره. البنك الأوروبي وصندوق النقد الدولي هما مؤسستان ماليتان محكومتان بقواعد مالية دقيقة: على اليونان كما على باقي الدول المدينة أن ترد الأموال والأرباح في الآجال المحددة، أما بعض أعضاء المنظومة الأوروبية النافذين كألمانيا وفرنسا فإنها تنظر بنظارات إستراتيجية وتخشى على مستقبل الوحدة وعلى المجهود التاريخي الذي بذل للوصول بالاتحاد إلى هاته المرحلة...
خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي قد يحدث زلزالاً إستراتيجياً لا يمكن أن يتصوره مديرو المؤسسات البنكية الأوروبية والعالمية المقرضة... وقد تقع دول في المستقبل القريب في هذا الفخ نفسه كالبرتغال مثلاً (وتداعيات الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 على دول كإيطاليا وإسبانيا ليست ببعيدة)؛ ولا ننسى أن النزعة الشعبية الرافضة لإملاءات المؤسسات الدولية والإقليمية داخل بعض التوجهات الحزبية قد تتقوى في أعرق الديمقراطيات، وعلى رأس ذلك اليسار المتشدد المعارض لليبرالية، مما سيكون له تبعات خطيرة على المسار السياسي من انتخابات تشريعية ومحلية وأوروبية، ولا ننسى أن قيمة اليورو قد تنخفض كما أن البنوك الدائنة لليونان قد تخسر الملايين من الدولارات إن عجزت اليونان على تسديد ديونها.
الاستفتاء الشعبي كانت عملية ذكية من تسيبراس جعلت الاتحاد الأوروبي بين سندان الشرعية الشعبية لدولها ومطرقة قواعد عالم المال والاقتصاد التي لا ترحم؛ وأظن أن العقلانية التكتلية الجيوسياسية هي التي ستفوز في آخر المطاف!