د. جاسر الحربش
تتكرر اللقاءات مع السيد محمد حسنين هيكل في الصحافة والفضائيات العربية والإقليمية، بعضها محسوب على من يسمون أنفسهم، بلا مصداقية على أرض الواقع، جبهة المقاومة والتصدي (قناة العالم، الميادين، المنار، الفضائية السورية) وبعضها محسوب على حكومات خليجية لا نحتاج إلى ذكرها، والبقية على حساب فضائيات مصرية زئبقية المواقف حسب الوضع السياسي في مصر. المشترك في كل اللقاءات مع هيكل، فضائيا ً وورقيا ً يكون تكرار الإستهزاء بالجزيرة العربية بالذات وما أنتجته منذ القدم حتى اليوم واستكثار أدنى مساهمة حضارية خرجت أو تخرج أو سوف تخرج منها. جزيرة العرب في أدبيات هيكل الإعلامية مجرد صحراء قاحلة بتجمعات بدوية بدائية، بينما الحضارة العربية بماضيها ومستقبلها (وهيكل يغفل حاضرها عمدا ً) هي بغداد ودمشق والقاهرة. اليمن والشمال العربي الإفريقي والسودان تسقط من ذاكرة هيكل التاريخية لأنه لا يتعرض لها بحق ولا باطل. إذا ً لابد من سبب دفين في عقل هيكل لهذه الإنتقائية في توزيع القدرة على التفكير والمنجزات الحضارية، وهو لا يتعدى بالتأكيد خيبات هيكل من التاريخ الحديث الذي صنعه إخواننا عرب الشمال.
في لقاء أخير مع جريدة السفير اللبنانية قال السيد هيكل كلاما ً كثيرا ً مكررا ً، ويهمنا منه في المقام الأول رأيه عن إيران وجوارها العربي. فيما يلي أورد أهم النقاط التي هي في نفس الوقت أكثرها كشفا ً لنفسية المحبط المرتد عن قضيته الأولى وكيف تحولت هذه النفسية إلى حالة عداء سافر مع قناعاته وشعاراته العروبية القديمة. يقول هيكل في لقاء جريدة السفير : سيغرق السعوديون في مستنقع اليمن / السعوديون لهم مطالب في اليمن وقد استولوا على محافظتين / السعودية ودول الخليج كلها عاجزة عن مواجهة إيران ويتساوون في الخوف منها ويمكنهم فقط الشكوى إلى الأمريكيين ومعاتبتهم / الموقف الأمريكي يهتم بإيران أكثر من اهتمامه بما حولها / إيران مثل مصر دولة حقيقية ذات قوة وحضارة طويلة. انتهى
للوصول إلى تقييم عادل لرأي الأستاذ علينا أن نقلب في مرتكزات حديثه نقطة ثم أخرى. أولا ً قوله إن السعوديين سيغرقون في اليمن : هل يتمنى هيكل في قرارة نفسه، ليس حبا ً في علي وإنما كرها ً في معاوية، لو أن التجمع الخليجي المؤيد بإجماع عربي ترك اليمن تغرق في المستنقع الإيراني مثلما غرق العراق وسوريا ولبنان من قبل وأصبح يهدد دول الخليج علنا ً بأن تصبح صنعاء هي العاصمة العربية الرابعة تحت إشراف طهران؟. أتوقع نعم، إذ أن الاضطراب النفسي ثنائي القطبية (Bipolar Disorder) واضح في هذا التوقع السوداوي الذي يتناقض بالكامل مع ما تربى عليه هيكل أيام جمال عبدالناصر من الاعتزاز بالنزعة الوطنية العربية من ناحية، وبين الواقع المنتكس الآن في حالته النفسية من الناحية الأخرى. هل الصحفي المخضرم يريد إسداء النصح لعرب الخليج بترك اليمن للقبضة الإيرانية، أم يتمنى لو تمكنت القبضة الإيرانية أولا ً من عنق اليمن، لتصل بعد ذلك إلى مكة والمدينة وحقول النفط، لتستطيع مسح الهوية العربية من جزيرة العرب؟. بهذه الرغبة الدفينة نطق لسان هيكل على ما أعتقد.
عندما يقول هيكل أن السعودية لها مطالب في اليمن واستولت على محافظتين، هل يريد الإيحاء وهو كاذب، لمن تبقى له من متابعين قلائل، بأن السعودية تخطط لاحتلال اليمن؟. الواقع الأمني والسياسي والإقتصادي يقول بأن اليمن هي التي لها مطالب من السعودية، وهي مطالب أخوية لا تستطيع السعودية ولا دول الخليج الأخرى التملص منها، ولكن الوفاء بها يتطلب أولا ً تمكين اليمنيين من العودة إلى شرعية دستورية مدنية كبديل وطني لتخريفات النكوص إلى الإمامية الطائفية التي تتنكر حتى لتاريخ الإمامية الزيدية التقليدية في اليمن ؟.
ويقول هيكل إن كل الخليج يخاف من إيران. . إلى آخر الجملة. المفترض في تسعيني يمارس التنظير السياسي منذ شبابه المبكر الاستنتاج بأن الخائف لا يبادر بحملة عسكرية تصحيحية ووقائية، بل يبقى مشلولا ًبالخوف ينتظر الفرج، لعل عدوه المنتفش يقبل بما هو دون ذلك أو أن يتنازل له ويرضى بواقع مذل؟. دول الخليج رفعت قبضتها العربية مبكرا ً في البحرين وتاليا ً في اليمن. عرب الخليج كلهم انتظموا في جسد واحد يدافعون عن مكونهم العربي الخاص ضد الغطرسة الإيرانية وضد توظيفها للمذاهب للتقاتل العربي المتبادل بالوكالة. يجب أن يدرك الأستاذ العجوز أننا هنا في الجزيرة العربية لسنا في وارد التحول إلى عراق أو سوريا أو لبنان لتحكمنا طهران، وبالتأكيد لن نترك البحرين واليمن لإيران. في هذا الشأن المحسوم لا ننتظر مشورة ولا مجاملة من أمريكا، نريدها فقط أن تكف تدخلها بخلط الأوراق عندنا مثلما تفعل في العراق وسوريا ولبنان.
في الآخر تأتي الإهانة اللامتوقعة في كلام هيكل، يوجهها إلى المكون العربي في أصوله الأولى، عندما يقرر بلسان أو تمنيات المودع المحبط، بأن إيران مثل مصر دولة حقيقة وقوية. يا أستاذ هيكل أنت تحمل اسمك الثلاثي محمد حسنين هيكل وكلها أسماء عربية وتدين بالإسلام. من أين جاءتك كل هذه الانتماءات وكذلك اسم الدولة العربية الأكبر التي أرضعتك العروبة فكنت الناطق باسمها أيام المرحوم جمل عبدالناصر؟. أليست أصولك هذه امتداد لجزيرة العرب؟.
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة لهذا الشيخ الذي بدأ عربيا ً طموحا ً، ثم ارتد على أهله وتنكر لمبادئ زعيمه العروبي المرحوم جمال عبدالناصر. من المؤكد أن الزعيم الكبير جمال عبدالناصر لو بعث حيا ً واطلع على تبدلاتك الإنتهازية، لتبرأ منك ولحاكمك بتهمة الخيانة الوطنية والقومية.