د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الإمارة الثالثة الدالّة على جدارة الشعب التركي بإحراز مركز حضاريّ ندٍّ للغرب تتعلق بالعنصر البشريّ. لقد تولّد لديّ انطباع إيجابي عن المواطن التركي مما لمحته خلال إقامتي في اسطنبول من الجدّيّة التي يتحلّى بها الأتراك التي تتفق مع ما عرف عنهم من صفة الاعتداد بالنفس،
والتي تظهر في التعامل معهم ومقابلتهم من غير جفاء أو تجهّم أو ضيق، على الرغم من ندرة الابتسامة البشوشة، وإن كان هذا لا ينفي حدّة انفعالهم (المبالغ فيها أحياناً) عند الشعور بالمضايقة أو الإهانة، ولا ينفي ميل البعض منهم إلى التلاعب بالزبائن السذّج. كما تظهر الجدّية من الناحية العملية في الذوق والانضباط والالتزام بالنظام العام في المجتمع وثقافة العمل. وعلى سبيل المثال فإنه على الرغم من ازدحام الشوارع بالمركبات وتداخل الشوارع وتفرعاتها وضيق بعضها، مما يبطّئ حركة المرور ويوقفها أحياناً، فإنه لا يوجد فوضى مرورية أو مضايقات، ولا تراكم أو وقوف مزدوج للسيارات ولا إزعاج متواصل بالأبواق. وتظهر مراعاة الذوق وحقوق السكان في استواء الأرصفة بما يرضي المشاة ومستخدمي العربات، وفي الاهتمام بنظافة الحدائق وحمايتها، وفي استواء منسوب الشوارع وندرة الحفر أو تجمعات المياه وطفح المجاري أو تراكم النفايات. مستوى النظافة عموماً مقبول في أسطنبول، لا يصل بها إلى سنغافورة، ولكنه ليس أقلّ من باريس. ونجد الانضباط أيضاً واحترام الوقت في الالتزام بمواعيد المواصلات العامة والرحلات السياحية. وعلى كثرة ما رأيت من أعداد الرجال والنساء في الأماكن العامة لم أشاهد تجمعات لعمالة (سائبة). ولا يلاحظ المرء قلّة في العمالة في الأماكن التي نرتادها (محلات الأطعمة، المحلات التجارية، الفنادق، المرافق السياحية مثلاً)، بل الأرجح هو الانطباع بزيادتها عن الحاجة، ومع ذلك فالكلّ مشغول بعمل، بما في ذلك أعمال النظافة. ثقافة العمل وإنتاجية العامل التركي معروفة حتى في خارج تركيا، كما يظهر من تجربة ألمانيا مع استقدام العمال الأتراك (غير المهرة) منذ عام 1960 حتى نهاية السبعينات، فقد كانوا موضع ترحيب لأنهم يعملون بجِدّ ويمارسون العمل أيضاً خارج وقت الدوام وفي نهاية الأسبوع (كان أغلبهم عزّاباً!) في مجال الصناعة والأعمال الإنتاجية الأخرى. العامل اليدوي والفني والمهني المتخصص هم أعمدة بنيان النهضة والتنمية في الصناعة والاقتصاد والخدمات والبنية التحتية في كل بلد. وفي تركيا ذخيرة ضخمة من هذه الفئات المنتجة. ويمكن تصور فاعلية هذه الذخيرة من قوة العمل باستقراء البيانات التالية:
* عدد السكان : 77 مليون نسمه - (منهم 50% أقل من 30 سنه).
* قوة العمل المتاحة : 28 مليون فرد.
* مؤشر الإتاحة (availability) من العمالة الماهرة والمهندسين المؤهلين وأخصائيي تقنية المعلومات يبلغ: 6.6 من 10، وهو أعلى من دول مثل تشيكيا وبولندا والصين.
* في تركيا (عام 2012) 166 جامعة حكومية وأهلية تضمّ أربعة ملايين طالب وطالبة، وتخرج منها ستمائة ألف طالب وطالبة، منهم 11% في تخصصات الهندسة والإنشاءات والتصنيع (وفق بيانات eurostat). لا بد من الإشارة إلى أن المقبولين في الجامعات تبلغ نسبتهم حوالي ثلث عدد خريجي الثانوية (العامة والمهنية معاً)، علماً أنه يوجد ما يقارب (4000) ثانوية عامة بها من الطلاب حوالي مليونين ونصف المليون، وما يقارب (5000) ثانوية مهنية وفنية بها من الطلاب حوالي مليونين. ويعني ذلك توفير قوة عمل كبيرة من طلاب الثانوية الذين يحملون مؤهلاً فنياً والذين لم يقبلوا في الجامعات، ستكون متاحة للعمل في مشروعات التنمية والصناعة.
في ضوء هذه الإمكانيات التي تتوافر لتركيا، يثور السؤال عن الأسباب التي حالت دون وصول تركيا إلى ما وصلت إليه دول مثل كوريا الجنوبية - لا سيما أنها أقرب لأوروبا جغرافياً وأكثر اتصالاً بها في السياسة والاقتصاد والثقافة، بل هي شريك عسكري في الناتو وعضو مراقب في الاتحاد الأوروبي. أول الأسباب في ظني أنّ النظام الجمهوري الذي أعقب الانقلاب على الدولة العثمانية عام (1923)، وضع ثقله في علمنة الدولة ودستورها وتحجيم المظاهر الدينية والتراث الاجتماعي التقليدي ونقل القوانين الأوربية، والاعتماد على قوة الجيش في حراسة النظام العلماني، وعلى المركزية في إدارة مؤسسات الدولة وبقاء بيروقراطيتها وهيمنتها على الإنتاج الصناعي وعلى مبادرات القطاع الخاص، وما يترتب على ذلك من فتح قنوات للمحسوبية والرشوة. وقد حدّ من ذلك السياسة المرنة والمنفتحة التي اتبعها (تورجوت أوزال) بعد توليه رئاسة الوزراء عام 1983، واشتراطات الاتحاد الأوربي عند التفاوض على طلب تركيا الانضمام إليه، وأدّى ذلك إلى نموّ الاستثمارات وتحرير مبادرات القطاع الخاص ونموّ الإنتاج الصناعي، وتضاعف هذا النموّ منذ عام 2003 بفضل السياسة الاقتصادية المرنة والمنفتحة التي اتبعها رئيس الوزراء (رجب طيب أردوغان). وثاني الأسباب - وقد يكون الأهم - هو عدم مسايرة التعليم لنهضة الاقتصاد ومتطلبات سوق العمل في أساليبه ومنهجه. فإلى جانب عدم كفاية الإنفاق على التعليم (11% من ميزانية الدولة) وازدحام الفصول، استمر أسلوب الحفظ والتلقين وإنهاء المقررات لغرض النجاح في الاختبار، دون إعطاء مهارات التفكير والإبداع المجال الرحب الذي يبرز مواهب الابتكار وروح المبادرة واستقلالية الفكر. ومنذ بضع سنوات قليلة بدأت الدولة بالعمل على تطوير التعليم وفق التوجهات الحديثة.
لكن السؤال الذي يتيه جوابه هو: هل يلتقي الشرق والغرب فعلاً في اسطنبول؟ في هذه المدينة رأينا المواطن التركي الأصيل المعتدّ بشخصيته وتقاليده والمجتهد في عمله والمنضبط الملتزم بالأنظمة والذوق العام ، والرجال الذين يملؤون المساجد يوم الجمعة، والنساء الكُثُر اللواتي يضعن الحجاب ويلبسن الثياب المغطية للجسم ، ورأينا (البازارات) ذات الطابع الشرقي والأطعمة والأشربة تركية المصدر والصنع التي تقدّم في أفخر المطاعم مع مثيلاتها من دول العالم، ولكن توجد أيضاً مطاعم البيتزا والهامبرجر ومقاهي الستاربكس وأمثالها ، ومحلات الرقص والموسيقى والمحلات التي تقدم أنواع المشروبات الكحولية، ورأينا كذلك النساء اللاتي يلبسن كالمرأة الأوربية المتحررة، وأحياناً وهنّ يمشين مع صديقات وقريبات يلبسن الثياب المحافظة. فالصورة في اسطنبول - كما هي في سائر تركيا - تعبّر عن ثنائية في المجتمع بين الليبراليين العلمانيين الذين يميلون لثقافة الغرب، والمحافظين على ثقافة الشرق المتمسّكين بديانتهم وتقاليدهم. إنه إذن التقاء تعايش بين ثقافتين مختلفتين في ظل نظام حكم واحد ودستور واحد، وعرضة للافتراق لو تبدّلت أساليب الحكم وتشريعاته. وقد تصل تركيا مع ذلك إلى مستوى عالٍ من النموّ التقني والاقتصادي مماثل لكوريا الجنوبية ومقارب لأوروبا المجاورة إذا تطورت قوانينها وأساليب التعليم فيها، ولكنها لن تصل إلى مركز حضاري يكون ندّاً للغرب ونموذجاً للشرق إلا إذا أصبح المجتمع التركي بأكمله مرتكزاً على قيم مشتركة يتبنّاها ويقبلها، ومبدعاً منتجاً في الفكر والعلم، فالحضارة ليست بضاعة تستورد وتوضع كما هي مع البضائع الأخرى.