جاسر عبدالعزيز الجاسر
في العلاقات الدولية بين الدول لا يمكن أن تحقق كل ما تريد، لأن الدول الأخرى لها مصالح خاصة بها ليس من الضروري أن تتلاقى تلك المصالح مع مصالحك الوطنية، إذن تبرز هنا ضرورة التلاقي والتفاوض وبناء علاقة شخصية بين قيادات البلدان لبناء ثقة وعلاقة لا بد أن تنعكس إيجابياً على مصالح البلدان التي تتواصل قياداتها.
هذا التمهيد يشرح إلى حد كبير أبعاد زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وهي الأولى منذ وصوله إلى العرش إلى الولايات المتحدة وإجراءه مباحثات «صريحة» وشفافة مع الرئيس الأمريكي أوباما، ونحن هنا لا نكشف سراً في أن الرئيس الأمريكي انحرف عن مسار العلاقات السعودية الأمريكية باختياره دولة «عدوة» للعرب وللاستقرار وحتى للغرب وأمريكية «صديقة» موازية أو لنقل منافسة للمملكة العربية السعودية صاحبة التاريخ الطويل وحينما تمتد علاقاتها مع واشنطن 84 عاماً، فترة زمنية تحققت من خلالها مصالح كبيرة للدولتين، اقتصادية في المقام الأول وإستراتيجية وسياسية انعكست إيجابياً على استقرار المنطقة، إلا أن الرئيس أوباما اختط مساراً جديداً للتعامل مع دول المنطقة، وهو المسار المزدوج من خلال إقامته سياسة التوازن بين دولة إقليمية صديقة صريحة وهي المملكة العربية السعودية ودولة عدوة هي إيران المحكومة من قبل متشددين طائفيين.
أوباما اعتقد بتغييره للمسار الإستراتيجي والسياسي في المنطقة أن المصالح الأمريكية في المنطقة قد انتفت بعد اكتشاف النفط الصخري، والذي أوصل الولايات المتحدة إلى الاكتفاء الذاتي بل وحتى إلى مرحلة التصدير، وقد شجعت كل هذه المستجدات الرئيس أوباما على الابتعاد عن حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين في المنطقة العربية وبالذات في إقليم الخليج العربي بسبب قصور الفهم لدى إدارته ومستشاريه باعتبار أن تلك العلاقة مبنية على قدرة الحلفاء العرب التقليديين على توفير الطاقة وبأسعار مناسبة لأمريكا وحلفائها، وأنه بوجود وفرة طاقة لدى أمريكا فإنه لا حاجة لهؤلاء الحلفاء، فقام بتغيير توجهاته واعتمد على مسار سياسي - اقتصادي بقربه من إيران رغم تطرف الذين يحكمون هذا البلد، وتجاهل هذا الرئيس مستشاريه أن المصالح الدولية لا تعتمد على قطاع واحد، فهناك دول مهمة إستراتيجياً رغم انعدام مواردها الاقتصادية، ودول ذات تأثير سياسي بسبب مكانتها الدينية والقومية وموقعها الجغرافي تفرض على الدول الكبرى أن تطور علاقاتها وتحافظ عليها. وهذا ما فات على الإدارة الأمريكية التي سرعان ما اكتشفت خطأ تصوراتها بعد استمرار تجاوزات النظام الإيراني، وقدرة الأنظمة العربية الحليفة على التعامل مع هذه التجاوزات دون أن تجرفها وتؤثر عليها تحولات الإدارة الأمريكية والتي ساهمت تصريحات ومواقف الرئيس الأمريكي في إعطائها، أو هكذا التصور لقادتها بأنه «ضوء أخضر» على مواصلة التدخلات والتمدد في المنطقة العربية وزيادة نفوذه في البلدان العربية من خلال دعم أذرعته الإرهابية، إذ اعتبر ملالي إيران قول أوباما فيما تسرب من فحوى رسالة سرية وجهها إلى علي خامنئي بلغة فيها أن القوات الأمريكية وقوات التحالف ضد داعش لن تستهدف قوات نظام بشار الأسد حليف النظام الإيراني ولا المليشيات الإرهابية الطائفية ولا عناصر الحرس الثوري الإيراني الذين يقاتلون في سوريا.
كل هذه المواقف والإيحاءات والتي تكررت من الرئيس أوباما سواء فيما تسرب من نصوص الرسائل التي تبادلها مع علي خامنئي أو المقالات التلفزيونية وبالذات المقابلة التي أجراها الصحفي فريد زكريا أو تصريحات الرئيس الأمريكي، جعلت كثير من المحللين والسياسيين بما فيهم كبار السياسة الأمريكية من هنري كيسنجر ومارتن أنديك، ومن العرب عبداللطيف الزياني أمين عام مجلس التعاون وكثير من الكتاب والمحللين السياسيين الذين كشفوا في كثير من المقالات والتحليلات عن القلق من المسار الأمريكي الجديد في عهد الرئيس أوباما والقبول بدور إقليمي لملالي إيران، والذين خذلوا الرئيس الأمريكي حتى بعد توقيع الاتفاق النووي، إذ أظهروا إصراراً على مواصلة نفس النهج السابق من خلال تكثيف دعم المليشيات والجماعات الإرهابية ودعم الأذرع العسكرية الإجرامية الإرهابية في الدول العربية، بل أكثر من ذلك إنشاء وإقامة بؤر إرهابية وخلايا وبالذات في دول الخليج العربية وهو ما كشف عنه أخيراً في الكويت والبحرين، مع مواصلة التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية المجاورة كما حصل في العراق في محاولة إجهاض إصلاحات رئيس الحكومة العراقية.
كل هذا جعل الإدارة الأمريكية والرئيس أوباما شخصياً يراجع مواقفه فيما يسمى بالمسار المزدوج، إلا أنه ومع هذا فإن الملك سلمان والقيادة السعودية ما كان لها أن تنتظر أن يكتشف أوباما والأمريكيون خداع وعدم جدوى التعامل مع نظام ملالي إيران، فالسياسة السعودية مبنية وترتكز على الحفاظ على الأصدقاء والشركاء الإستراتيجيين والتباحث معهم بصراحة وبشفافية وبصدق لتبيان الطريق لمسار سياسي وإستراتيجي صحيح وهو ما هدفت إليه زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز لواشنطن، وما تجسد في القمة التي عقدها مع الرئيس أوباما.