د. حسن بن فهد الهويمل
شغلني حب التوفيق بين الفرقاء عن تلقي مُحْدثات المشهد السياسي، وتثوير دفائنها، والتفريق بين محكمها، ومتشابهها.
لقد كنت أظن أن اختلاف المشارب والنوازع لا يعطل القدرة على التعاذر، ولا يحول دون الاشتغال في القواسم المشتركة.
... لكن ضيق العطن، وتغليب الأثرة على الإيثار، حفز الفرقاء على الشحناء، واستنزاف الطاقات في الإقصاء، ومصادرة الحقوق.
وكم كان بودي لو ذاق الفرقاء الفَرِقون لذة التفسح في المجالس، وتمكين المخالف من حقه المشروع في القول، والفعل، والجدل المحفوف بالتسامح، واللين، والثقة، والموضوعية، وطلب الحق.
إن هناك فرقاً بين من يطلب الحق، ومن يطلب الانتصار، وبين اللجاجة المسفة، والجدل بالتي هي أحسن.
كثير من العلماء، والمفكرين المتْرَعِين بالتجربة، والمعرفة، لا يعنيهم الانتصار، ولا يزعجهم جريان الحق على ألسنة خصومهم، لأن الصواب ضالتهم، فمن أصابه، أبلغ الجميع غايتهم.
فطالب الحق لا يحفل بما سواه، وطالب الانتصار تستهويه الأضواء وتستدرجه شهوة الشهرة. وقد يستخف بالصدق، والأمانة، والموقف.
فالنفوس الضعيفة هي وحدها التي تتوق إلى الإقصاء، ومصادرة الحقوق، وحب الأثرة. وكفى بالمرء إثما أن تكون غايته نفي المخالف، أو توهينه، في حين أن المشهد يتسع للجميع، متى وَسِع الجهادَ بالكلمة، والأمَر بالمعروف والدعوةَ إلى الله.
وفي النهاية فالنوايا مطايا، وكم من عامل جاد، ليست لديه نية صالحة صادقة، يصبح عمله هباء منثوراً.
وصدق مُحَصِّلُ ما في الصدور، ومُبْتَلي السرائر حين يقول:- { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً }. ويقول:- {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}.
وكم من معدود من الأخيار، يفوق لداته بالكدح، والكدَّ، ولكنه يتخلف عنهم بسوء النوايا. ومثل هذا يكون عمله عليه حسرة، ثم يغلبه المخفون من الكيد، والمكر، وفساد المقاصد.
في بلادي كما في غيرها مذاهبُ شتى، وآراءٌ متباينة. قد يُبْدى البعض منهم مذهبه بحيث يكون [سلفياً] نصوصياً، يدير العقل في فلك النص، أو [عقلانياً ]متأولاً، يدير النص في فلك العقل. أو [متصوفاً] ترق حواشيه، أو غير ذلك. وقد تشد هذا، أوذاك بوارق الجديد، فيتلقى ركبان المذاهب الوافدة.
وإذا كانت الملل، والنحل في التراث، قد فرقت الشَّمل، وأثارت الفتن، وأوغرت الصدور، عند من لم يحسنوا إدارة الاختلاف، فإنها في المعاصرة أشد، وأنكي.
فهناك [علماني] متطرف في ترويج علمانيته. أو [ ليبرالي ] لا يخشى في انتمائه لومة لائم.
وهناك [حداثي] فكري، لا يبالي بأي واد هلكت المحافظة، أونفق التجديد. وفي مقابل هذه المحدثات مايناقضها، وكل حزب يقدم مشروعه بطريقة فجة، تصادر الحقوق، وتسفه الأحلام.
الاختلاف إكسير الحياة، وبدونه يَضْوى جَسَدُها، وتَسُود النمطية، ويَسْتَشْري الخمول الفكري. وعلى ضوء ذلك فالاشكالية ليست في مجرد الاختلاف، إنها في إدارته، وحسن التصرف على ضوئه.
الخائفون من التناحر، والفشل، وذهاب الريح يمارسون الإطفائية، وفك الاستباك، وإصلاح ذات البين، وتطمين الفرقاء بأن المشهد يتسع لكل الأوزاع.
والمجربون العالمون العاقلون من سلف الأمة بحسن إدارتهم للاختلاف، خلفوا لنا ثروة طائلة، تمثلت بملايين المخطوطات التي سطا عليها المستكبر، والمستعمر، وامتص نسغها المستشرقون، وتمثلوا قيمها، وتوسلوا بمناهجها، واستعانوا بمعاييرها. ثم أفاضوا علينا بحشفهم، وسوء كيلهم. وجعلوا بأسنا بيننا شد يداً، بحيث شغلونا عن موروثنا المليء بالحكمة، والموعظة، وفصل الخطاب.
إن الموروث الحضارى المهمش وثيقةُ نجاح لعلمائنا، ومفكرينا الأوائل. وتعدد المذاهب، والطوائف، والآراء، لم تحل دون إدارة دفة الحياة السوية.
أما البعض منا من القديم، والحديث فكا [الثريا] و[سهيل] التي يقول عنها شاعر الغزل العفيف [ابن أبي ربيعة]:-
[أيُّها المُنْكِحُ الثُّريَّا سُهيلًا
عَمْرَك اللهَ كَيْفَ يَلْتَقِيانِ
هِيَ شامية إذا ما اسْتقلت
وسهيلٌ إذا اسْتَقَلَّ يَمَانِي]
ولهذا الكلام الملغز قَصَصٌ جميل، تبادله مؤرخو الأدب.
هذه الانتماءات غير الراشدة، وغير الواعية، ملأت مشاهدنا بالغثاء، وسوء الأدب، واستنزفت جهودنا، وألهتنا عن كل مكرمة، واستغلها العدو المتربص بنا.
ومع إمكانية التَّبصر، والتقدم، وتنمية القواسم المشتركة في عالمنا العربي المنكوب بنخبه، فإن البعض منا نكَّب عن تلك المهايع جانبا.
لقد استنزف طاقات أمتنا التناجي بالإثم، والعدوان، ومعصية الوطن العربي من المحيط الى الخليج الذي أظلتنا سماؤه، وأقلتنا غبراؤه، وعمتنا خيراته، وكاد يمتد دخن ذلك إلى موطننا الاقليمي القُطْرِي الذي احتضن، واستبطن الأسودين: الكعبة فوق أديمه، والنفظ في باطن أرضه. وهما عشق طلاب الدنيا، والآخرة.
إن وطنا هذه سماته، وتلك إمكاناته لجدير بأن نقيه دخن الفتن. بحيث نصطلح على ما يحيينا، ونحتكم إلى ما أمرنا بالرد إليه:- {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ}.
هذا الشوط الدلالي الملزم جاء بعد قوله تعالى :- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وهذا النص يستدعي قوله تعالي :- {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى? أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }.
مانوده من المختلفين حول القضايا العامة والمصطلحات [الخراشية] الرد إلى الله، والرسول، وإلى أولي الأمر، وهم الأمراء الذين يستفتون المختصين، أو العلماء الذين يعاضدون الأمراء أو كليهما. وليس هناك ما يمنع من التمسك بالرأي، والإصرار عليه، متى امتلك المستبد القدرة على الاستنباط، ومتى لم يؤثر ذلك على وحدة الأمة.
وطننا المترع بكل مقومات الحياة الكريمة مستهدف في عقيدته وفي أمنه وفي إنسانه. وأعداؤه يكيدون له بالقول، والفعل، وفينا سماعون لهم.
وواجب النخب من كل الأطياف الحيلولة دون تفكك جبهته الداخلية. ولا سيما أن العدو يراهن على تفكيك تلك الوحدة. وما التفجيرات الإرهابية التى صدعت القلوب قبل المباني إلا دليل على محاولة يائسة بائسة لضرب بعضنا ببعض، وجعل بأسنا بيننا شديد.
دعونا نفوت الفرصة بالتعايش الحضاري، ودعونا نستذكر أول جريمة إرهابية اتخذت المسجد منطلقاً لها، وذلك عندما أغتال [أبو لؤلؤة المجوسي] خليفة المسلمين وسبعةً من [البدريين].
ما أود التذكير به هنا، ونحن نسعى، ونحفد لرأب الصدع، وامتصاص الشحناء، والتقريب بين وجهات النظر ألا ندع الجرح يرم على فساد، بحيث نَدَّعي أن الأمور تسير على مايرام، وأن التنازع مقدور عليه، وتحت السيطرة.
لا بد أن نعرف أن الحرائق من مستصغر الشرر، وأن خلل الرماد وميض نار، وأخشى مع الإهمال أن يكون لها ضرام.
ما نقرؤه. وما نشاهده. وما نسمعه. وما نعايشه لا يعد من الظواهر الحسنة. هناك تنازع، وهناك اتهامات، وهناك تجهيل، وتهوين، وهناك إقصاء، واستعداء. والعدو المتربص يرصد، ويجمع المعلومات، ويفرزها، ويهئ من خلالها ما يود الوصول إليه.
لا أريد تقديم الشواهد، فهي من الوضوح، والحضور كما المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها الخاص، والعام، والحضري، والبدوي، كما يقول [الجاحظ].
إننا لكي نخطو الخطوة الأولى في الطريق المستقيم، لابد أن نكون صادقين مع أنفسنا، جريئين في تقويم المواقف، مبادرين في اتخاذ الحلول، وإن كانت مرة، ومؤلمة.
البعض منا يستبعد التقريب بين وجهات النظر، ويستصعب حمل بعضنا على التنازلات غير المخلة بالثوابت، ليتم اللقاء على كلمة سواء، وهذا من التيئيس والإحباط.
دعونا نحسن الظن ببعضنا، ونتصور بأن الاختلاف ناتج اجتهادات، لم يحالفها الحظ، وأن الجدل مطلوب في سبيل البحث عن الحق. ثم لنكن أرحب صدراً في قبول المخالف، حتى وإن اختلفت وجهات النظر، ومن رزق حسن الظن، والتماس العذر للمخالف، فقد رزق خيراً كثيراً.
إن طائفة من المتمذهبين المتعصبين المتشددين، لا يتحرجون من السب، والشتم، والاتهام لخصومهم، وتلك الأخلاقيات تسيء إلى لحمة الأمة، وتماسكها، وتمكن الأعداء من تصعيد الخلاف، وحتمية الصدام. وساعتها يكون الرابح عدونا المشترك.
لا نريد أن يكون بأس الأمة بينها شديداً، بحيث نعيد همجية [داحس] و[الغبراء] فالصدام بين الحضارات محظور، فكيف به إذا كان بين أطياف الحضارة الواحدة.
التعايش مطلب إسلامي قبل أن يكون مطلباً إنسانياً، وهو ممكن، ومن يملك الحق يخدمه السلم، لأن أوراقه رابحة، ورؤيته مقنعة، متى استطاع توصيلها بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد استطاع الإسلام الانتشار بالقدوة، والدعوة بالحكمة، والموعظة الحسنة. وشاهد ذلك ماكانت تفعله جماعات الدعوة، ومراكزها المنتشرة في [أمريكا] و[أوربا] قبل [الحادي عشر من سبتمبر].
لقد فوت العنف، والصلف على الأمة فرصاً ثمينة، ماكان لها أن تضيع في ظل الفراغ الإيماني الذي تعيشه الحضارة المادية المتعطشة إلى القيم الروحية.
لقد كنا الأقدر على عبادة الخالق، وعمارة الكون، وهداية البشرية، وما يتوفر عليه الإسلام من قيم، يتطلبها الإنسان السوي، ولكننا أضعناها، وأيَّ سعادة للإنسانية أضعناها.
إننا محاسبون على تفريطنا بهذه الفرص، ومحاسبون على تنازعنا، ومحاسبون على أثرتنا، وتزكية نفوسنا الأمارة بالسوء.
ما أتمناه ألا توهن عزماتنا الهوة السحيقة التي شكلها الوهم، وسوء الظن، وعمقها في مشاعرنا أعداؤنا المتربصون.
إن هناك إمكانية لتدارك الأمر، وهناك قواسم مشتركة، لو أحسنا استغلالها لحالت دون القطيعة.
إن على الأمة الغارقة في حمامات الدم، أن تضع خطاً أحمر، لا نجاوزه. يتمثل في الكف عن الاقتتال، والمصير إلى الوفاق، فإن لم يتم، فلا أقل من التعاذر، والتعايش، والحيلولة دون إغراء الأعداء بالتحريش فيما بيننا.
وإذا كان المتشائمون يرددون:ـ
[عَمْرُك اللهَ كيفَ يَلْتقِيان].
فإن على المتفائلين أن يرددوا :-
[وقَدْ يَجمعُ اللهُ الشَّتْيتَين بَعْدمَا
يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أَلَّا تَلاقِيَا]
والظن هنا يعني اليقين، فهو من الأضداد.
ففي الذكر الحكيم:- {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} أي تأكدت وأيقنت.