د.عبدالرحيم محمود جاموس
بعيداً عن المناكفات والتجاذبات السياسية، التي تعج بها الساحة السياسية الفلسطينية، بسبب الدعوة لانعقاد المجلس الوطني سواء في دورة عادية أو استثنائية، نستطيع أن نحسم ونقول إن هذه الدعوة قد جاءت متأخرة كثيراً عن استحقاقها، ومع ذلك أن تأتي متأخرة خيراً من أن لا تأتي، في ظل حجم التغيرات الهائلة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يشهدها العالم بصفة عامة، والمنطقة العربية بصفة خاصة، وبعد إخفاق مشروع السلام الفلسطيني، والمتمثل في البرنامج المرحلي لـ م.ت.ف المقر عام 1974م والذي تبلور بشكل واضح في 15-11-1988م في الدورة التاسعة عشر للمجلس الوطني في الجزائر، والذي أعلن فيها وثيقة الاستقلال، وقيام دولة فلسطين على حدود الأراضي المحتلة في الرابع من حزيران للعام 1967م وعاصمتها القدس وفق قرارات الشرعية الدولية التي تعاملت مع القضية الفلسطينية وفي مقدمتها القرار 181، والذي شكل مدخلاً للاستثمار السياسي للانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي شكلت بدورها داعماً لهذا البرنامج، وما تمخض عنه من مؤتمرات ومشاريع دولية، توافقت حول مبدأ حل الدولتين، ولكن وبعد أكثر من عقدين من انطلاق الجهود الدولية لإقرار تسوية ترتكز على الشرعية الدولية وقراراتها، عبر مفاوضات ثنائية تحت إشراف دولي لم يكن مناسباً، بسبب تفرد الولايات المتحدة فيه وانحيازها لصالح الطرف الأقوى والمتحكم بعوامل القوة على الأرض، ما أوصل هذه الجهود إلى طريق مسدود، يكاد يطيح نهائياً بالبرنامج المرحلي لـ م.ت.ف وبالجهود الدولية المبذولة عربياً ودولياً لإقرار مثل هذه التسوية السلمية، يضاف إلى ذلك بروز دور حركة حماس وقوى الإسلام السياسية خارج إطار م.ت.ف، ومعارضتها لذلك البرنامج ولتلك الجهود القائمة على مبدأ التفاوض وصولاً إلى التسوية، ومن ثم إدخال المشهد الفلسطيني في حالة من الارتباك والتناقض من خلال مشاركتها انتخابات عام 2006م وما أحدثته من إرباك للحالة الوطنية الفلسطينية، بشكل عام ولـ م.ت.ف بشكل خاص، ثم قيادتها لانقلاب 15-06-2007م في قطاع غزة ما أدى إلى إخراج قطاع غزة من تحت سيطرة السلطة الفلسطينية والتي تمثل نتاج الاتفاق المرحلي الذي تمخضت عنه جهود التسوية السياسية، ثم تعريض قطاع غزة لثلاثة حروب دامية غير متكافئة وما نتج عنها من تدمير وتضحيات جسام، وفقد الكثير من المكتسبات التي كان قد حققها اتفاق الحكم الذاتي المرحلي، وما كان قد سبقها من اجتاح لمناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في ما سمي بعملية السور الواقي في عام 2002م، لقمع انتفاضة الأقصى، وما نتج عنها أيضاً من تدمير لمؤسسات السلطة وتضحيات جسيمة أخرى، وتنكر سلطات الاحتلال لالتزاماتها وفق الاتفاق المرحلي، وإطلاق يد الإرهاب المنظم من قبل جيش الاحتلال ومستوطنيه، وبناء سور الفصل العنصري ليقتطع مساحات واسعة من الأرض .. وتسارع وتيرة الاستيطان الصهيوني في القدس خاصة والضفة الغربية عامة، لخلق وقائع سكانية وعمرانية على الأرض وذرائع من شأنها أن تجعل من حل الدولتين حل غير ممكن التطبيق والتنفيذ، وإخفاق كافة الجهود العربية والفلسطينية في إنهاء حالة الانقسام وما تمخض عنها والتي بدأت تأخذ مسارات تزيدها تكريساً، بسبب إعلاء النزعة الشوفينية والمصلحة الحزبية الأيديولوجية لحركة حماس، كونها جزء لا يتجزأ من جماعة الإخوان المسلمين الدولية، والتي رفضت منذ النشأة والتأسيس لـ م.ت.ف أن تكون جزء من الحالة الوطنية الفلسطينية وبالتالي من منظمة التحرير منذ نشأتها وتأسيسها في العام 1964م، لمبررات حزبية وأيديولوجية صرفة بعيدة كل البعد عن الهم الوطني والقومي، وسعيها الدؤوب للنيل من صفة م.ت.ف كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، مقدمة نفسها بديلاً عنها وليس شريكاً لها، رغم بعض التصريحات لبعض قياداتها تتباكى فيها على الوحدة الوطنية، ولكنها في الحقيقة تضع العقبة تلو الأخرى في طريق إقامة وحدة وطنية صلبة تعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة تطلعاته في العودة والحرية والاستقلال.
وبعد تفجر ما عرف بالربيع العربي منذ خمس سنوات وما حصل من تغييرات سياسية هائلة في الوضع العربي برمته، وتداعي بعض الدول لتشغل بمشاكلها التي باتت أكثر حدة من القضية الفلسطينية، واستثمار قوى إقليمية ودولية للحالة الفلسطينية في صراعاتها واللعب على معادلة الانقسام والمعاناة الناتجة عنها.
أمام كل هذه التغيرات والأحداث الجوهرية، وهذه الحالة (التراجيدية للمشهد السياسي الفلسطيني) تأتي دعوة المجلس الوطني الفلسطيني، للانعقاد في دورة عادية يومي 4 و15 أيلول الجاري لمناقشة هذا الوضع الخطير، الذي يمر به الشعب الفلسطيني وقضيته فلسطينياً وعربياً ودولياً، وبعيداً عن كل أشكال التجاذبات السياسية التي تشهدها الحالة الفلسطينية، حول مسألة الانعقاد وتوقيتها وكيفيتها ومكانها، ودون الغرق في جدلياتها العقيمة ومناكفاتها، والتي تخفي خلفها مصالح شخصية أو فئوية أو حزبية بعيدة كل البعد عن الصالح العام الفلسطيني، إن انعقاد المجلس في هذه المرحلة الخطيرة يضع أعضاءه أمام مسؤولية كبرى، في اتخاذ القرارات والسياسات القادرة والكفيلة بمعالجة ومواجهة هذا الوضع الخطير والمتأزم على المستوى الداخلي والخارجي، وعلى مستوى مواجهة التناقض الرئيسي مع الاحتلال الصهيوني وإفرازاته من استيطان وجدار وإرهاب متواصل لشعبنا وتهديد للمقدسات، وحماية التواجد الفلسطيني في الدول العربية من تداعيات ما يعرف بالربيع العربي، فإن مهمة هذه الدورة للمجلس الوطني هي مهمة صعبة وشاقة ومفصلية وتاريخية وتقترب من مهمة التأسيس لمرحلة غاية في الصعوبة والتعقيد، سواء على مستوى استعادة وحماية دور م.ت.ف كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، لكونها تتسع للكل الفلسطيني، وللحركات الإسلامية وفي مقدمتها حركتي حماس والجهاد الإسلامي للانصهار في الكيانية الفلسطينية، والتخلي من جانبها عن عقدة الاستفراد والتميز التي حكمت سلوكهما طيلة المرحلة الماضية والتي لم تثمر إلا مزيداً من المعاناة، والتأخر، والتشتت للنضال الوطني الفلسطيني، والإنهاك والإضعاف، والذي يتوج اليوم بعد تخلي العدو الصهيوني عن مجمل التزاماته التي رتبتها عليه الاتفاقات الموقعة معه إلى التسلل عبر هذه التشققات وحالة الضعف والانقسامات لتجزئة القضية الفلسطينية إلى أجزاء مقطعة وبالتالي ضرب وحدة القيادة ووحدة الشعب ووحدة الأرض الفلسطينية ووحدة البرنامج السياسي والكفاحي، إذا استمر هذا النهج بمواصلة سياسة التفرد والعزل والتمييز والاستبدال سيؤدي إلى الإجهاز على المشروع الوطني الفلسطيني برمته وتصفية القضية الفلسطينية تصفية كاملة وبعد اختزالها بمعادلة معالجة الأبعاد الإنسانية والاقتصادية لقطاع غزة في مقابل توفير الأمن والاستقرار للكيان الصهيوني وبتغطية عربية وإقليمية ودولية..!!
فلابد من تفويت هذه الفرصة على العدو الصهيوني، وسد الشقوق والثقوب والانقسامات الفلسطينية التي يمكن له النفاذ من خلالها، وهنا تقع على عاتق حركتي حماس والجهاد عدم إتاحة مثل هذه الفرصة للعدو ليناور معهما والدخول في مفاوضات سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، إنسانية أو سياسية سواء، والالتزام بالكل الفلسطيني وبموقفه الثابت من حقوق شعبنا الثابتة، وأن تتقدما للمشاركة في دورة المجلس الوطني المزمع عقده وعدم المقاطعة، والمشاركة في صياغة التوجهات والرؤى السياسية الوطنية الفلسطينية، والمشاركة في إعادة البناء لـ م.ت.ف ومؤسساتها.
إن الشعب الفلسطيني، والعدو قبل الصديق، يتابعوا ويراقبوا ما سيتمخض عن دورة المجلس الوطني الفلسطيني، سواء على مستوى الرؤى السياسية والبرامج الكفاحية التي سيقرها، لمعالجة تلك المعضلات العديدة، أو على مستوى مخرجات القيادة التنفيذية التي يزمع على اختيارها وانتخابها، والتي يجب أن تكون قادرة على القيام بأعباء القيادة ومستلزماتها في المرحلة الحالية والقادمة بما يكفل استعادة وحدة القيادة والبرنامج السياسي والكفاحي ووحدة القضية والشعب، وهذا يستتبع التأكيد على إعادة الاعتبار لـ م.ت.ف كحركة تحرر وطني تناضل من أجل إنهاء الاحتلال واستكمال بناء الدولة وإنجاز الاستقلال، وفق البرنامج الوطني المقر في الدورة التاسعة عشر لعام 1988م، وعدم الانشغال والضياع في تطبيق تفاصيل الاتفاق الانتقالي لسلطة الحكم الذاتي الذي أصبح فاقداً للأهلية والمشروعية بسبب عدم التزام الطرف الآخر بما كان متوجب عليه، والذي كان يجب أن ينتهي منذ عام 1999م، وهذا يعني الاهتمام أولاً بإعادة بناء القواعد الشعبية والجماهيرية لـ م.ت.ف من فصائل وطنية واتحادات ومنظمات جماهيرية ونقابات مهنية تحت إشراف دائرة التنظيم الشعبي التي لابد أن تكتسب أهمية خاصة في المرحلة الحالية في المواجهة مع الاحتلال طالما تقر جميع الفصائل الوطنية أن الحراك الشعبي والمقاومة الشعبية السلمية، تعتبر الأداة الرئيسية لمواجهة سياسات الاحتلال القائمة على الاستيطان وبناء جدار الفصل والمصادرة والتهويد .. إن دائرة التنظيم الشعبي تكتسب أهمية قصوى في هذه المرحلة ولابد أن يوفر لها الأطر الكافية والمؤهلة والإمكانيات اللازمة للقيام بمهامها، حتى يمكن بعدها إطلاق حركة المقاومة الشعبية في كافة المناطق، وتنظيم الشتات الفلسطيني في إطار هذه التنظيمات والاتحادات الشعبية والنقابات المهنية ليستعيد الشتات الفلسطيني وحدته ودوره في العملية الكفاحية، والتنسيق بهذا الشأن مع القوى العربية الشقيقة، والقوى الشعبية الصديقة في مختلف الدول.
وكذلك إعادة بناء الدوائر الأخرى لـ م.ت.ف منها الدائرة السياسية والدائرة الأمنية والدائرة العسكرية وكذا الاقتصادية وغيرها من الدوائر التي لا غنى عن استمرار عملها في ظل مرحلة التحرر الوطني وعدم الركون إلى مؤسسات السلطة كبديل عنها لأنه لا يمكن لها أن تفي بالغرض، ومن أجل حالة النهوض بـ م.ت.ف للقيام بهذه المهام لابد من اختيار قيادة جديدة تمتلك المشروعية والقدرة على القيام بعملية النهوض والتجديد ومواجهة التحديات، لا مجرد إسباغ الشرعية على أوضاع قديمة الكل بات يشهد بعجزها وعدم قدرتها على القيام بأعباء المرحلة، فالتغيير يجب أن يكون عميقاً لا سطحياً أو تجميلياً.
على ضوء ما سلف فإنني أدعو إلى المشاركة الفعالة لكل التنظيمات والاتحادات والنقابات والأعضاء في دورة المجلس الوطني، كي يمثل نقلة نوعية في تاريخ العمل الوطني، وكي يتحمل الجميع مسؤوليات المرحلة الخطيرة، وأن يتوجه الجميع نحو الجوهر وأن لا يتوقف عند الشكليات والذرائعيات، فالوضع أخطر مما يتصور البعض، وأبعد من كل المصالح الشخصية والفئوية والحزبية، وفلسطين وشعبها وقضيتها أكبر من كل الأشخاص والأحزاب والمنظمات، ونحن قادرون على رص الصفوف واستعادة الهيبة لشعبنا، والمكانة اللائقة لقضيتنا عربياً ودولياً، ومواجهة خطط العدو الذي هو ليس في أحسن أحواله بل في أسوئها على المستوى الداخلي والدولي، إذا ما ترفع الجميع عن الحسابات الضيقة وارتقى إلى مستوى المسؤولية المطلوبة وإذا حسنت النوايا.