د.عبدالله مناع
قبل أن يستقر بي المقام في مدينة (ديفون) الفرنسية الصغيرة، الوادعة الهادئة: حياة.. والرشيقة: بناءً وتصميماً.. على سفوح جبال الألب بـ(قممها) الثلجية البيضاء طوال العام أو (المون بلان) كما يُسميها الفرنسيون، والملاصقة للحدود السويسرية.. حتى لتبدو كما لو أنها (سويسرية)
بأكثر منها فرنسية - لولا لسانها وروحها -، إذ لا تبعد عن عاصمة سويسرا الأممية الشهيرة (جنيف).. بأكثر من أربعة عشر كيلاً، والتي شاءت ظروف علاقاتي وصداقاتي أن تجعل منها مصيفاً لي.. أتردد عليها كلما اشتد بي قيظ يوليه وأغسطس.. في مدينتي جدة؟!
فقبل أن أُصابح زهورها وورودها وأشجارها الخضراء الباسقة، أو أمر في طرقاتها الواسعة المنحدرة في وسطها والمستقيمة في أطرافها.. وقبل أن ألتقي فيها بصديقي الفرنسي الدائم (كريستوف).. أو (المغربي) العربي المتفرنس (بلحاج).. أو أن أُحيي كفيفها الأشهر الذي يعبر شارع المدينة الطويل ذا الاتجاه الواحد (ري دي سيت) في العاشرة من صباح كل يوم معتمداً - فقط - على عصاه، والذي اعتدت أن ألقي عليه تحية الصباح كلما صادفته.. دون أن يعرفني أو يراني بطبيعة الحال: (بون جور) أو يوم سعيد.. بل وقبل أن آخذ مكاني على رصيف مقهاها الأشهر والأكبر (شارلز بوب) على أكبر ميادين المدينة، لأرى نوافيره الفياضة وزهوره ووروده البنفسجية والصفراء والحمراء والبيضاء، وهي في قمة شبعها وانتعاشها.. من كثرة ما يهطل عليها من أمطار.. لأحتسي فيه فنجانيْ قهوة (الإكسبريسو) التي اعتدت تناولهما في تلك الساعة من كل صباح.. منتظراً وصول بقية الأصدقاء، متحسساً رؤية (المستر ديكس).. المغني والعازف الأيرلندي: الطاعن سناً، والخفيف.. روحاً وبدناً، الذي يظهر بين الحين والآخر في المقهى، والذي جمعتني به بداية لغته الإنجليزية التي يريد التحدث بها.. وسط مجتمع (ديفون) الذي يتحدث فيه أبناؤه كما غرباؤه من المغرب والجزائر وتونس.. (الفرنسية) ولا غيرها، بينما يشتاق (المستر ديكس) لمن يشاطره الحديث بلغة موطنه (الإنجليزية).. حيث وجد في شخصي بغيته، ليمتعني بأحاديثه الكثيرة المتراكمة عبر سنواته التي تزيد على السبعين عاماً، لأكتشف بأن الجامع بيني وبين المستر ديكس.. كان يمتد لما هو أبعد من اللغة، فهو إلى جانب مواهبه - المقدَّرة من جانبي - عازف ومغنٍ في أحد الأندية الرياضية، يتسامر ويسهر على عزفه وأغانيه أعضاء النادي.. في الإجازات الأسبوعية والمناسبات الموسمية والأعياد: (مدخن) معتدل من مدخني (الغليون) - أو «البايب» - كمعظم البريطانيين، إذ لا يزال بين يديه (غليون) قديم.. نافَ عمره عن الخمسة والثلاثين عاماً، وقد عرضت عليه الشركة المنتجة له.. إعادة شرائه منه بـ(الثمن) الذي يقدره، لتستخدمه في (الإعلان) والدعاية عن أصالة وجودة منتجاتها.. ولكنه رفض خوفاً على حياته!! إذ سيطر عليه اعتقاد.. بأن فراقه لـ(غليونه) القديم قد يؤدي به إلى فراق حياته!! ومع ابتئاسه لعدم مشاطرتي لـ(رأيه).. كان يقفز إلى سؤالي: ما هي أفضل وأجمل وأقوى سيارة في العالم.؟ ومع دهشتي لهذه (القلة).. التي بدت لي بعيدة كل البعد عن (الغليونات) وأحاديثها..؟ كان يتولى الإجابة على نفسه.. بنفسه قائلاً: إنها سيارة (الرولزرايز) البريطانية.. الشهيرة!!
ومع تسليمي بما قال.. فقد قفز ثانية إلى القول: بأن غليونات (بيترسون).. هي رولزرايز (الغليونات) جميعها، ومنها (غليونه).. الذي امتنع عن إعادة بيعه إلى الشركة.. خوفاً على حياته!!
* * *
على أي حال.. وقبل أن أفعل أي شيء من كل هذا الذي تحدثت عنه في (ديفون).. كان ابني الأكبر - عمرو - يرفع من درجة إلحاحه عليَّ، ومغرياته لي بزيارة (ميلانو) الإيطالية: مدينة المال والأعمال، وأفخم الملابس، وأرقى الأحذية وأجمل المطاعم، فهي لا تبعد عن (ديفون) بأكثر من أربع ساعات بـ(السيارة).. وسط حقول وجبال ووديان خضراء لا نهاية لها، تتخللها استراحات لا أنظف ولا أجمل منها: تشتري منها ما تريد.. وتأكل فيها ما تشتهي من الوجبات الخفيفة.. وتتناول فيها تلك القهوة الساخنة التي تحبها.. برغوتها الكثيفة وقوامها المتماسك، وأنه حجز الفندق ودفع مُقدَّماً.. لتكون إقامتي ووالدته فيها هدية منه بمناسبة مرور أكثر من ثلاثين عاماً.. على زيارتنا لـ(ميلانو) خلال أيام شهر العسل، وأنه سيقود سيارته المستأجرة إلى فندق (أونو) بقلب المدينة.. معتمداً في الوصول إليه وإليها على خريطة الملاحة الإلكترونية المثبتة على (طبلون) سيارته.. وعلى مساعدة (حرمه) في متابعة أسماء الشوارع والميادين عندما نقترب من ميلانو.. لنصل إلى فندق (أونو).
ولم أكن بحاجة إلى كل ذلك الإلحاح.. أو لكل تلك الضغوط لزيارة عاصمة منطقة بحيرات (اللمباردو) قبل الوحدة الإيطالية في ستينيات القرن التاسع عشر، وعاصمة الإنتاج الصناعي والزراعي الفاخر والوافر: من الطائرات إلى السيارات.. ومن القطارات إلى الدراجات.. ومن المحاريث والمولدات إلى صناعة الأثاث والأزياء بعد (الوحدة).. التي أفنى الزعيم الإيطالي الأشهر (غريبالدي) حياته من أجل قيامها بين أقاليم: ميلانو في الشمال ونابولي في الجنوب وجنوة في الغرب والبندقية في الشرق وروما في الوسط.
وقد أحببت (ميلانو) منذ أن رأيتها في رحلتي الأولى لإيطاليا - قبل الزواج - للقاء كاتب إيطاليا الأشهر (ألبرتو مورافيا) في منزله على شاطئ نهر التيفري في روما، وأحببت شموخها واستعلاءها.. وحتى قولة أهلها عن أنفسهم: (الناس في إيطاليا.. يأكلون في روما، ويعملون في ميلانو، ويغنون في نابولي، وينامون في صقلية)!! إلا أنني أرجأت زيارتها - منذ أن أخذت أتردد على (ديفون) كل صيف - إلى أن تواتني ظروفي (البنكنوتية).. فـ (ميلانو) هي بحق مدينة الغنى والأغنياء، المُرحب بهم.. وبـ(يوروهاتهم) على الدوام، ليحسم حفيدي (عبد الله) ترددي أو رغبتي في الامتناع عن مرافقتهم.. عندما قال: (يا سيدو لازم تيجي معانا)، فكان لا بد وأن يستسلم (سيدو) لرغبته.. وأن يذهب معه - ومعهم - لنصل إليها وإلى فندقها (أونو) القريب من ميدانها الأجمل والأفخم والأكبر (ميدان الدوم).. الذي يحتل واجهة كنيسة (الدوم) بمبناها الرائع والضخم والمعجز في تفاصيله الدقيقة، والذي يبهر الناظر إليه.. عندما يبدو من على القرب والبعد وكأنه قطعة واحدة مصبوبة من الرخام الإيطالي الفاخر.. لتُفاجئني نظافة فندق (أونو) التي بدت لي وكأنها أكثر من اللازم رغم أنه من فنادق الدرجة الأولى - ذات الأربع أو الثلاث نجوم -، لأضع رأسي على مخدة سريره الواسع المريح.. لسويعة، ليستأنف جمعنا زيارته للمدينة بادئين من ميدان الدوم نفسه، لتُفاجئني.. تلك الأعداد الغفيرة من الزوار والسياح العرب.. بأكثريتهم الخليجية المفاجئة وغير المتوقعة، فقد كنت أعتقد أن أغنياءهم يفضّلون لندن وباريس، وأواسطهم يفضّلون بيروت، والشعبيون منهم يفضّلون القاهرة، لتنتهي جولتنا الأولى.. باستغراق الجميع في حالة تسوُّق كبرى لا نهاية لها!! واقتعادي على كرس بأحد المقاهي المنتشرة حول الميدان في مواجهة مبنى الدوم لأتأمل جمال ميلانو وواجهات شوارعها.. وتلك الكتل البشرية المبتهجة على أرصفتها لتناول طعام العشاء.
* * *
في صباح اليوم التالي، وبعد وليمة إفطار إيطالية سخية..كنت أتعجَّل الهبوط إلى الدور الأرضي، لأسأل موظفيْ الاستقبال عن أقرب مقهى لأتناول قهوتي، ولأرقب حركة الحياة والأحياء في صباحات ميلانو، ولأدخن (غليوني) بحرية تامة دون أن أُضايق أحداً.. فقالت لي إحدى عاملات الاستقبال: إنه مقهى (كارولينا).. الذي لا يبعد عن مدخل الفندق بأكثر من خطوات.. إذا غادرته واتجهت يميناً، وهكذا فعلت.. لأرى على يساري مقهى جميلاً.. على مساحة متجرين، وأمامهما رصيف رحب.. وقد امتلأ بما يزيد على عشر إلى خمس عشرة طاولة مغطاة بمناديل بيضاء وقد التف حول كل منها مقعدان متقابلان. إذاً هذا هو مقهى (كارولينا)، الذي كان أكبر مما توقعت، وأجمل كثيراً مما ظننت.. والذي تمتد (فترينة) طعامه الزجاجية النظيفة اللامعة بطول متجريه، وقد قبعَ في طرفها الأول: (الكاشير).. بينما تناثر الندلاء هنا وهناك، لأقول بإيطالية متواضعة: (بونجورنو).. لترد إحداهن (بونجورنو)، وهي تسألني وقد أدركت فيما يبدو بأن لغتي الإيطالية لا يعتمد عليها: أين تريد أن تجلس..؟!
فاخترت.. أقصى طاولة على يمين المقهى، لأرقب المارة والمركبات وحركة الحياة على ذلك الميدان المتوسط الحجم مقارنة بحجم (ميدان الدوم) الهائل حقاً، لتسألني: وماذا تفضِّل..؟
قلت: (ديل إكسبريسو) وزجاجة ماء صغيرة..؟
ومع انصرافها لإحضار طلباتي.. كنت قد بدأت في تنظيف وإعداد (غليوني).. بينما تتوازع نظراتي مشاهد الحياة في ميلانو في ذلك الصباح: هذا هو (مترو) ميلانو بلونيه البرتقالي والأخضر.. وهؤلاء هم الهابطون من عرباته والصاعدون إليها.. بملابسهم الصيفية النظيفة وخطاهم السريعة المتعجلة، وهذا هو (الترولي باص) بعرضه الباذخ وسيره المتأني وهو يزاحم السيارات والموتوسيكلات والدراجات.
مع وصول فنجان (الإكسبريسو) الذي لم يتأخر كثيراً.. كنت أُسائل نفسي: أكل هؤلاء الصاعدون والهابطون.. والغادون والرائحون على الرصيف هم من (ميلانو) وما حولها وحدها..؟
إن كثرتهم.. لا تقول بذلك! نعم.. هم إيطاليون في الغالب الأعم.. ولكن ليسوا هم - بالضرورة - من مدينة ميلانو نفسها، فقد يكونون من وسط إيطاليا.. أو من غربها أو من جنوبها.. وكلها مناطق تشتد حرارتها في شهري يوليه وأغسطس.. مما يتطلب هجرة مواطنيها إلى حيث المناطق الباردة في الشمال الإيطالي كـ (ميلانو) أو (كومو) أو مدينة بحيرة (ليك ماجوري) أو الأكثر اعتدالاً كـ (البندقية) أو (فينيسيا) وشواطئ (كابري) و(ساردينيا) و(سورينتو)، خصوصاً.. أن شهر (أغسطس) هو شهر الإجازات في إيطاليا.. حيث تهدأ الحياة تماماً في مدن الوسط والجنوب الإيطالي، بينما تسطع وتتألق مدن الشمال الإيطالي حياة بتلك الأعداد الغفيرة من المواطنين والسياح.. وهي تتذكَّر (غاريبالدي) نجم الوحدة الإيطالية وصانعها بكفاح طويل مرير امتد بامتداد حياته.!!
* * *
لقد نغّص عليَّ سعادتي في ذلك الصباح.. تذكُّري لأخبار الاقتتال الإذاعية ومشاهده التلفزيونية التي تجري صباح مساءً من أجل (تقسيم) الوطن الواحد!! فالعراقيون يتقاتلون.. من أجل تقسيم العراق إلى دولةكردية في الشمال، وسنيّة في الوسط، وشيعية في الجنوب، والليبيون يتقاتلون من أجل تقسيم ليبيا.. إلى ليبيا طرابلس في الغرب، وليبيا بنغازي في الشرق وليبيا (سرت) في الوسط، والسوريون يتقاتلون من أجل تقسيم سوريا إلى دولة علوية، ودولة سنيّة وأخرى شيعية، ونسي شراذم السياسة هؤلاء أن الأمم الراقية تُقاتل وتَتقاتل من أجل وحدتها.. لا من أجل تقسيمها!.