د.ثريا العريض
شوارع إسطنبول هذا الصيف جمعتنا وآلاف الغرباء من شتى أرجاء العالم.. وإلى جانب اللغة التركية التي بدأت أعتاد جرسها, كانت حوارات الشوارع تتداخل بأصداء كل لغات العالم تداخلاً غير متكامل جعلني أرى الكون وأفهم الانتماء بوجهة نظر أبعد. ملامح الوجوه تشي بمرجعيات أصحابها وإثنياتهم وأصولهم عبر التاريخ الزمني, ولكنها لا توضح انتماءاتهم رسمياً ولا فكرياً ولا عاطفياً. بينما ثقافياً؛ ربما تُوحي ملابسهم بدياناتهم منهم رغم اختلاف السحنات واللغات.
ومع هذا لا يتفق كل المسلمين على مظهرهم الخارجي, بقدر ما يتفق المحافظون من كل العقائد على اللبس المحافظ.
ومثلما لا يقدم المظهر والزي إثباتاً لدين بعينه, لا تؤكد اللغة في حد ذاتها الانتماء لجنسية بعينها أو إثنية محددة. ولا تضمن الإثنية أو اللغة أو الدين أو الجنسية توافقاً في الرؤية السياسية. ما يعني أن الفرد يشترك في الانتماء إلى دوائر متعددة مع أفراد يختلفون عمن يشترك معهم في دائرة أخرى.
«حكيم» صديق كردي من الجنوب متشبث بكرديته وإسلامه حتى النخاع, تجمعه الجنسية التركية وعدم الرضا عن سياسة الحكومة الحالية مع زميل دراسة لنا؛ «كريم» الذي ولد في ألمانيا وأمسى خليطاً من النظريات الشيوعية والثقافة الألمانية والفوقية. أما صديقنا الثالث «أورهان» الذي تخرَّج في نفس الجامعة البريطانية العريقة مع «كريم»، فهو بعكسه متقبل للنظام القائم ويعمل ضمنه مستشاراً في القطاع العام ويفكر جدياً في الترشح للبرلمان.
في شوارع إسطنبول على الحدود مع أوروبا, كنت أميز اللغة العربية بكل لهجاتها ولكناتها وأجد السورية الشمالية هي الغالبة. وهذا غير مستغرب حتى في الأحوال العادية، حيث بين تركيا جنوباً وشمال سوريا حدود طويلة عبر مناطق تحوي ملايين من أعضاء عائلات ممتدة عبر الحدود تحمل إثنيات وجنسيات دول مختلفة. فكيف بالوضع في مرحلة زمنية متأزمة يصبح فيها الفرار من نيران الحرب الداخلية ودموية داعش, وهي تعبث بأمن واستقرار المنطقة, مسألة حياة أو موت.
تركيا كالمغناطيس, جذبت ولأسباب متعددة أكثر من مليونين من الهاربين من جحيم الجوار؛ الأغنياء منهم القادرين على امتلاك شقة أو منزل في المدن التركية، والفقراء الذين يملؤون الشوارع متسوّلين لقمة العيش.. أوضاعهم تفطر القلب خصوصاً الأطفال.
بلا شك هي مرحلة زمنية عصيبة قد يكون أصدق توصيف لها أنها حقبة الهجرة من الموت.
نشرات الأخبار الغربية تحمل تفاصيل محزنة عن محاولات اللاجئين الهروب من جحيم بلدانهم عبر مياه المتوسط التي أغرقت الكثيرين ومعاناة من ينجون من الغرق وهم يتجمعون بالآلاف في معسكرات التجميع على حدود الدول الأوروبية.. أو يموتون بالعشرات والمئات وهم يحاولون التسلل عبر الحدود الممترسة بالأسلاك الشائكة. نتائج حرائق السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية وصلت الآن إلى أوروبا, وموجات اللاجئين بالملايين تطرق أبواب بلدانها مسببة احتقاناً اقتصادياً وجدالاً محلياً حول سياسات قبول اللجوء الإنساني التي تنتهجها.
دول أوروبا وضعت سياسات اللجوء للأفراد وتختلف في ما بينها حول هذه السياسات. بعضها كالمجر والبوسنة تجد نفسها الآن أمام الآلاف من المتدفقين يومياً، تجمعهم في معسكرات مسيَّجة، أو تعيدهم من حيث جاءوا. وحتى تلك الدول التي تسمح سياساتها وإجراءاتها بفتح أبوابها أمام اللاجئين، تواجه جدلاً داخلياً بين المتعاطفين إنسانياً والرافضين لفكرة الترحيب باللاجئين الذين سيشاركون سكانها البنى التحتية والموارد, وربما مستقبلاً فرص العمل.
والأسوأ توقعاً أن يكون ضمن اللاجئين إرهابيون مستترون يتأبطون شراً.