سلمان بن محمد العُمري
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «نعم المال الصالح للمرء الصالح» [رواه أحمد وغيره وصححه الألباني]، ومن النعم العظيمة على المسلم أن يرزقه الله - عز وجل - مالاً حلالاً طيباً مباركاً ويوسع عليه في رزقه، ثم يوفقه لينفق من هذا الرزق المبارك لعمل البر والخير والإحسان، وبهذا تتحقق له صفتان طيبتان الأولى: الكسب والرزق الحلال ثم الإنفاق في أوجه الخير والقرآن الكريم يصف المال بأنه خير في مواضع مختلفة كما قال - عز وجل -: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. وجعل وفرة الأموال من البركة والثواب المعجل فقال تعالى على لسان نوح - عليه السلام -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}، وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، ومدح النبي - صلى الله عليه وسلم - الغني الصالح فقال: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي، وكم هي من نعمة عظيمة أن يتوافر للمسلم المال الصالح الذي يكسبه من حله وينفقه في حقه، والشر والبؤس لمن كسب المال بطرق غير مشروعة ومن أعمال محرمة ثم صرفها في أوجه الفساد والشر فهي خسارة مضاعفة. نسأل الله العافية والسلامة، وقد قال أحد السلف: وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل.
ومما يروى من وصية أبي قيس بن معدي كرب لبنيه قوله: «يا بنيّ اطلبوا هذا المال أجمل طلب، واصرفوه في أحسن مذهب، صلوا به الأرحام، واصطنعوا به الأقوام، واجعلوه جنّـة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم؛ فإنه جمعه كمال الأدب، وبذله كمال المروءة.
وقد سجلت كتب التاريخ عن قصص من أنعم الله عليهم بالكسب الحلال وأنفقوا أموالهم في سبيل الخير وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، وغيرهم من الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن تبعهم من التابعين والسلف الصالحين، ونحن في موسم الحج نتذكر دائماً الفقيه العابد والمنفق الصالح عبدالله بن المبارك - رحمه الله - كان ابن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم، وكان إذا أراد الحج من بلده (مَرو) جمع أصحابه وقال من يريد منكم الحج؟ فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده في صندوق، ويقفل عليه ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطيب الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع بهم إلى بلده، فإذا وصلوا صنع لهم طعاما ثم جمعهم عليه، ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فرد إلى كل واحد نفقته، ومن شواهد العصر على البذل والإحسان على الحجيج في سالف الزمان الأوقاف الحالية التي أوقفها المحسنون من مشارق الأرض ومغاربها على الحجاج، وقد نمت وزادت وبارك الله فيها وأصبحت أقيامها تزيد على مئات الملايين. وفي هذا الزمان لدينا العديد من المحسنين والمحسنات الذين يتبنّون كل عام كفالة الحجاج وتحمّل نفقاتهم بالكامل. وهناك من أوصى وأوقف من ماله لهذا الغرض، وهناك مشاريع خيرية قامت لهذا الغرض لبعض رجال الأعمال يتجاوز عدد المستضافين للحج سنوياً العشرة آلاف حاج، وهناك من دأب منذ سنوات على التكفل بحج الفريضة لأقاربه وفي كل عام يسير قافلة لهذا الغرض، وآخر تعاهد المسلمين الجدد في منطقته وتكفّل بحجهم ومثله من يسهم في حج معدود عن نفسه وعن والديه ويحتسب ذلك بالتكفل بحج من لم يحج ولو سردت من الأمثلة على من ينفقون في هذا الباب لاحتجت لصفحات تلو صفحات بل لمجلدات من القصص والأخبار عن كفالة الحجج من قصص المتقدمين والمتأخرين.
ومع ما نسمع من الأخبار الطيّبة والقصص الحميدة من كفالة الحجاج وأنها باب من أبواب الإحسان فإن هناك من المحرومين ممن أنعم الله عليهم بالرزق الوفير وبلغ من العمر عتياً ولم يحج لا هو ولا من يعول من زوجة وأبناء وبنات بالغين ولربما أنه طاف بهم بلدان المشرق والمغرب ولكنه يتثاقل وإياهم الذهاب إلى مكة المكرمة تساهلاً بالكلية أو تذمّراً من كلفة الحج وهو الذي ينفق أضعاف ذلك في رحلاته الخارجية وشتان بين الفريقين، ومن أدركته المنية وهو على هذا الحال فهو آثم ومفرط في ركن من أركان الإسلام لم يؤده رغم الاستطاعة فالحج فريضة على كل مسلم مكلّف مستطيع من الرجال والنساء، مرة واحدة في العمر، لقول الله - جل وعلا -: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: «ومن تركه وهو قادر فهو على خطر»، فقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال فيمن تركه وهو قادر: «لا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً»، هذا من باب الوعيد، هذا من باب التهديد والوعيد، وإلا فليس بكافر، من تركه ليس بكافر لكنه عاص، إذا ترك الحج وهو يستطيع، تركه تساهلاً فهو عاصٍ، ويروى عن عمر أنه قال: «ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين»، والنص في ذلك كله للتحذير والترهيب من التساهل، وإلا فالذي ترك الحج وهو مستطيع قد عصى ولكنه ليس بكافر، بل مسلم يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
وأتمنى قيام مؤسسات خيرية للحج والعمرة تتولّى كفالة الحجاج والمعتمرين، وستسهم في الحد من الافتراش وستساعد المحسنين من غير ذوي التجارة العالية بالمساهمة فيما يستطيعون في كفالة الحجاج، ولم نشاهد حتى الآن سوى جهود معدودة لبعض المحسنين في هذا المجال كعمل مؤسسي منظم إلى جانب جهود بعض مكاتب توعية الجاليات.