د. جاسر الحربش
سبحان مغير الأحوال. الكيانات العربية على الأنهار الخصبة، بمدنها المفتوحة عبر التاريخ على الحضارات المجاورة، فرقتها صراعات الولاءات الحزبية والطائفية والمذهبية فصار أهلها ينزحون عنها بالملايين إلى المنافي. الصحراء الطاردة عبر التاريخ بسبب القحط والعوز والقبلية هي التي أصبحت مستقرة وجاذبة للنازحين والباحثين عن الاستقرار والأمن.
لكن ولشديد الأسف يوجد بين عرب الحواضر القديمة، خصوصاً بين الذين استقروا وتجنسوا في الغرب أو في روسيا، من يقتات على تأجير اللسان والقلم ليعبر عن حنقه على هذا الوضع الإيجابي في الجغرافيا الصحراوية، بدلاًً من أن يحمد الله على بقاء بعض الدلالات والأمثلة على إمكانيات الاستقرار والإعمار وعلى أن في البيت العربي ركناً ما زال صالحاً للتعايش.
لن يكون الاستنتاج ظالماً لو قلنا إن هذه النوعيات من العرب الحانقين على ما تبقى من أمل، فقط لكون هذا الأمل صحراوياً، يحملون تربوياًً وتراثياًً ومنذ مئات السنين صفات التنكر والعقوق تجاه الصحراء العربية. بدلاً من التركيز على مآسيهم الحزبية والمذهبية والطائفية في ديارهم التي فروا منها إلى المنافي، نجدهم يفرغون إحباطاتهم على المكان الوحيد المتبقي كأمل يحتذى، فقط لأن هذا المكان في عقولهم لا يمكن أن يكون سوى صحراء قاحلة. السبب المنطقي الوحيد لهذا الحنق هو أنهم لا يريدون الاعتراف بعراقة أهل هذه الصحراء في صنع التاريخ والرجال، بما في ذلك تاريخ كياناتهم الخصبة. هم أيضاً وهذا هو الأهم، لا يريدون الاعتراف بأن تمزيق مجتمعاتهم يتم بأيدي أحزابهم وزعاماتهم الطائفية والسياسية ومغامرات عسكرهم الانقلابية.
إذاً الآن فقط وفي العقود الأخيرة من تاريخها الموغل في القدم تعود هذه الصحراء إلى ذاكرة أولئك الذين مسحوها تماماً من الذاكرة على امتداد أربعة عشر قرناً من التاريخ العربي. منذ انتقال السلطة المركزية من المدينة المنورة إلى الشام والعراق ومصر، أصبحت صحراء الجزيرة العربية وكأنها ليست من التاريخ ولا الجغرافيا العربية والإسلامية، وكأنها لم تكن المحرك البشري والفكري لكل هذه الجغرافيا والتاريخ. منذ ذلك الحين أصبح ما تبقى من الحجاز المناسك المفروضة بالوحي السماوي، وذلك أعطى بعض الاستقرار المعيشي المتواضع لسكان مكة المكرمة والمدينة المنورة، أما للبقية فالأرض اليباب. وادي الحجاز وتهامة ونجد واليمامة وهجر أسقطت من حسابات الاهتمام والتواصل وتركت لأحوالها القديمة، لتتدبر نفسها بنفسها حسب تقلبات الزمن. الطبقات الحاكمة والمترفون في المراكز العربية الحضرية هناك، بعيداًً عن الصحراء وأهلها، كانت تكتفي بالتقاط بعض المواهب الصحراوية في الشعر والقيافة وأصول اللغة، وما عدا ذلك الصمت المطبق والعقوق لديار الآباء والأجداد القديمة.
الحاضر المعاش حالياً، بما أحدثه التطور العلمي وتقنياته الحديثة قلب الحسابات الإقليمية والمعيشية، لكنه للأسف الشديد لم يستطع اجتثاث الكثير من صفات الجفاء والنكران للصحراء العربية وإرثها الصانع والمجدد للتاريخ والرجال، وأبقى هذا الجفاء في العقول التي تنكرت لأصولها منذ ألف وأربعمائة عام.
الآن وفي أحرج لحظات التاريخ العربي يتضامن أهل هذه الصحراء في مجلس تعاوني دفاعي واحد، للحفاظ على المتبقي من الاستقرار العربي، كنواة يرجون أن تنبت منها بعون الله إمكانيات العودة إلى التعايش والاستقرار العربي الشامل. عرب الصحراء منهمكون الآن في مواجهة مصيرية على حدودهم الجنوبية ضد مشروع تخريبي يتزعمه حزب مذهبي رجعي، خفاش خرج من كهوف الماضي تتحكم فيه دولة عنصرية غير عربية. في نفس الوقت يواجه عرب هذه الصحراء نفس هذا العدو في الشمال الشرقي بهدف تأمين هذا الجزء المتبقي للعرب من الانجراف إلى الهاوية التي سقطت فيها العراق وسوريا ولبنان والهاوية التي تحفر لليمن.
يقول أجراء الإعلام العرب في المهاجر الأجنبية إن المجتمعات الخليجية تخلت بنذالة (هكذا)، عن اللاجئين السوريين والعراقيين وتركتهم للابتزاز والغرق والموت على حدود أوروبا. يقولون أيضاً إن حكومات الخليج غزت اليمن لوأد الديمقراطية الواعدة هناك. يتحدثون عن العنصريات المذهبية في الخليج وعن العقلية المصدرة للإرهاب العالمي، ويحملون مسؤولية الشنائع التي يرتكبونها هم ضد بعضهم في كياناتهم الخاصة على مجتمعات وحكومات الكيانات الصحراوية. مرجعيات الحوثي وقم بالنسبة لهم ليست رجعية ولا خرافية ظلامية، ولكن الله يعلم أنهم خونة كاذبون.
نحن نعرف وهم يعرفون أن الأغلبية الساحقة من رؤساء ومجندي الإرهاب منهم وفيهم، من أحزابهم وطوائفهم وقياداتهم، وأنهم يقتلون ويغتصبون ويطردون أهلهم ومن أراضيهم، كما أنهم يعرفون تماماً بالوقائع والأرقام أن سلطات الكيانات الصحراوية تتعقب من ينضم إلى الإرهاب من مواطنيها بكفاءة وتقضي عليهم بالمئات في معارك شبه يومية.
إنهم يعلمون علم اليقين، ولكنهم يكذبون عمداً وعلناً، أن الحرب في اليمن هي حرب على عصابة رئيس سابق فاسد مفسد سبق أن تظاهر اليمنيون طيلة أربع سنوات لعزله، وأنها حرب على خفاش مذهبي خرج من كهف الظلام بأجندة عنصرية إيرانية بهدف اغتصاب الشرعية والاستيلاء على اليمن بالقوة والترويع، تمهيداًً للوثوب على الديار المقدسة والقضاء على ما تبقى للعرب من كيانات مستقرة في صحرائهم الأم التي أنجبتهم ومكنت لهم في حواضرهم على ضفاف الأنهار وشواطئ البحار.
من الحقائق التي يعرفها هؤلاء الأجراء أيضاً أن كيانات هذه الصحراء تضم أكبر تجمعات عربية مهاجرة، سورية وفلسطينية ومصرية ويمنية وغير ذلك، ليس كلاجئين وإنما كأخوة عاملين ومشاركين في مصادر الماء الشحيحة وفرص العمل ومقاعد الدراسة والخدمات الصحية. مرة أخرى وبعد أن أتيحت لها الفرصة النادرة في تاريخها تثبت هذه الصحراء جدارتها بلم الشمل والمحافظة على الانتماء الشامل للمكونات الحضارية العربية.