د. محمد بن عبد الله ال زلفة
منذ تشكلت أحلامي الطفولية الأولى وأنا لم أتجاوز السادسة من عمري حينما كلفت من قبل عائلتي بمهمة حماية ركن من أركان مزرعتنا من هجمات الطيور على أكواز الذرة عندما أصبحت ممتلئة بالحبوب، كانت المهمة صعبة تفوق مقدرة طفل لم يبلغ السادسة من العمر، ولكن ما كان يخفف صعوبة المهمة أنني كنت مساعداً للحامي الرئيس الذي يتخذ من سطوح ملاحق قصر النائب مكاناً للقيام بمهمته وكانت قذائف أو مقذوفات «ميضافته» وهي عبارة عن قطع من الخلب المجفف تغطي كافة المزرعة بما فيها ذلك الركن الذي علي أن أبقى به من حوالي الساعة العاشرة صباحاً إلى ما قبل المغرب بقليل إلى حينما تذهب الطيور إلى أعشاشها بعد مطاردة ماراثونية طوال اليوم بينها وبين الحماة بتلك القذائف مصحوبة بأصوات تصدر من الحماة مثل لا لا لا لا بر بر بر بر حاح حاح... ومناداة الحماة بأسمائهم مثل جتك جتك جتك يا محمد في القرنة... (أي الزاوية)
أو على العاند ومنظافة فتى لا يصل مقذوفاتها ابعد من بضعة أمتار وهكذا أصوات لا تهدأ معظم الوقت سوى هنيهات قصيرة للراحة وتناول وجبة في معظم الأحيان وأنا واقف أو على طرف ساقية أغرف من مائها ما يساعد على ابتلاع اللقمة إذا لم تكن تلك الوجبة المتكونة من قرص من الذرة وفى الأحيان القليلة من البر مصحوبا بقليل من اللبن.
كنت أمكث معظم وقتي فوق قوز من الطين وإذا اشتدت الشمس أذهب إلى ظل شجرة قريبة من ذلك القوز وأحياناً يغلبني النوم ولكن يقطع نداء الحامي الرئيس نداءه الدائم جتك يا محمد.
في هذا المكان بالذات تولدت أحلامي الأولى بأن سأبني لوالدتي بيتا قريبا من ذلك المكان حيث كان والدي قبل وفاته بفترة قصيرة قد أحضر أدوات بناء ذلك البيت الذي وعد ببنائه لها، ولكن القدر لم يمكنه من ذلك كنت أسمع والدتي تقول متى أرى لي بيتا مستقلا كنت أحلم به.
كنت أقول لنفسي أنا من سيحقق هذه الأمنية لأمي لكوني أكبر أولادها وانشغلت في أحلامي بكيف سيكون شكل ذلك البيت ويجب أن يكون فيه غرف كثيرة، وله فناء واسع أحيطه بأشجاركثيرة فأمي تحب الأشجار وأنا كذلك ربما ورثت هذا الحب منها، كنت أقوم بصنع البيت من تراب ذلك القوز وأرسم ملامحه وما يحيط به وكنت أقول لنفسي أن مساحة المكان الذي أختاره والذي قد لا تكون كافية أنني سأكبر وكذلك أخي حسين نريد أن نوسع الساحة ليستوعبنا جميعا وذهب بي الخيال إلى أن تكون كل المساحات من الأراضي الممتدة من الشمال إلى الجنوب المحيطة بذات المكان قد تكون من نصيبي حينما أكبر وأبني فيها ما أشاء وأعملها بالطريقة التي أريد ولا يتدخل أحد في شيء مما أريد وكانت لدي نزعة استقلالية منذ أن كنت صغيراً تمر بي السنون وأحمل معي الأفكار الخيالية التي بدأت منذ الطفولة المبكرة وأبدأ في تنفيذ ما كنت أحلم به وأصبح هذا البيت الذي كان حلماً حقيقة.
وكبرت وكبرت الأحلام وذهبت بعد الانتهاء من دراستي الجامعية ثم ابتعثت إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم إلى بريطانيا وحصلت على درجة الدكتوراه كنت طوال هذه السنين من الغربة أحمل معاي أحلامي زرت خلال سنوات البعثة بلدانا كثيرة وزرت جامعات كثيرة ومراكز أبحاث ومكتبات عديدة وتتلمذت على أيدي أساتذة كبار يملكون بيوتا بها مكتباتهم الكبيرة كنت آمل وأحلم أن يكون لي بيت بالقرب من المكان الذي بنيت فيه أحلامي المبكرة وأن يكون لي مكتبة مثل تلك المكتبات الخاصة التي رأيتها في بيوت من عرفتهم من الباحثين والأكاديميين كنت أحلم وأعمل على تحقيق الحلم فبدأت في تكوين مكتبتي على مراحل بدأت منذ السنة الأولى لدراستي المتوسطة في مدينة الخبر في المنطقة الشرقية وظللت أنمي هذه المكتبة على مدى مراحل سنوات دراستي وأثناء سنوات البعثة وسنوات الترحال في مدن كثيرة من بلدان متعددة إذ ما تحط بي الرحال في مكان، حتى اشتري من الكتب الجديدة منها والقديمة والنادرة ظلت مكتبتي ترحل معي من مكان إلى آخر وظلت هي همي الأكبر وحبي الأكبر أحرص عليها أكثر من أي شيء آخر أملكه.
وتحقق لي الحلم فأصبح لدي مكتبة كبيرة وأصبح لها مقر مميز، كان هو النواة الأولى في تحقيق الحلم الأكبر وهو أن يكون لي وباسمي مركز حضاري يحمل اسمي كتلك المراكز التي زرتها في بلدان عديدة تحمل أسماء مؤسسيها وحينما استقرت مكتبتي في بيتها الذي لا أخالها تنتقل إلى مكان آخر لأنها بنيت على جزء من الأرض التي كنت أحلم أن تكون من نصيبي والأرض في عرفنا في الجنوب مقدسة خاصة تلك التي يرثها الأبناء من الآباء والأجداد فهي لأتباع مهما قست الظروف على أصحابها يموتون جوعاً ولا يبيعون ارض آبائهم وأجدادهم. انظر مقالتي أنا ومكتبتي المنشورة في جريدة الجزيرة والتي جعلتها مقدمة لدليل مكتبة المركز وتوسع الحلم وأصبح المركز مكتملا بكل مقومات وأصبح مقصداً للزوار وملتقى للمفكرين والمثقفين ومقرا لعقد الندوات والمحاضرات وإقامة المعارض الفنية وغيرها.
كيف تولدت فكرة إقامة متحفي الشخصي؟
جرت العادة أن المتاحف الشخصية لا تقام في كثير من الأحيان إلا بعد وفاة من تستدعي الضرورة إقامة متحف خاص به فأردت مخالفة هذه العادة.
وجرت العادة أيضا أن تقام المتاحف الشخصية للشخصيات المهمة التي لعبت أدوارا في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو في عالم الاختراع أو الأدب أو الفن وأن تقوم بهذه المهمة أي إقامة المتاحف الشخصية المؤسسات الرسمية أو الأهلية أو الجامعات للمتميزين الذين ينتمون لهذه المؤسسات وقدرت نفسي في مصاف هؤلاء ولماذا لا أقوم بهذا العمل أنا بنفسي، لفت انتباهي إلى أن بلادنا من أقل البلدان بما فيها البلدان العربية لإقامة متاحف شخصيات بارزة خدمت وطنها في العديد من المجالات التي أشرت إليها أعلاه والقليل منهم من أقيم متحف باسمه والقليل منهم من سمى باسمه كلية في جامعة أو حتى مدرجا في جامعة أو قسما في شركة كبرى أو مبنى في مؤسسة بحثية أو اقتصادية أو فنية أو حتى اسم شارع باسمه في بلدته أو محافظته هذا الشعور ولد لدي رغبة منذ بداية التفكير بإعادة ترميم قصر جدي ووالدي قبل عقد ونصف من الزمن وتحويله إلى متحف يضم العديد من القطع الأثرية والتراثية والوثائقية، وقررت أن أطلق عليه متحف قصر النائب تخليداً لاسم والدي والنائب اللقب الذي يحمله والدي إلى حين وفاته- رحمه الله- والنائب صفة لها دلالتها السياسية والاجتماعية والقصر هو مقر النائب الذي كانت تعقد فيه الاجتماعات وتقر فيه القرارات وتصدر منه وإليه، لذا جاءت التسمية للربط بين المكان وهو القصر ويبن صاحبه وهو النائب. كان متحف قصر النائب هو النواة الأولى لإقامة مركز حضاري ثقافي متكامل متكون من مكتبة كبيرة في بناء متميز هي الأولى والوحيدة في محافظة أحد رفيدة التي يزيد عدد سكانها عن مائة وأربعين ألف نسمة ومسجد بني بطريقة أيضا متميزة يتسع لحوالي 300 مصل وأطلقت عليه مسجد الوالدين أمي وأبي.
ونزل أي فندق به قاعة محاضرات وعروض تتسع لأكثر من أربعمائة شخص وبين المكتبة والمسجد والنزل ساحة كبيرة تزيد مساحتها على خمسة آلاف متر لإقامة العروض الشعبية والمهرجانات والمناسبات المختلفة وحافظت على مساحات زراعية هي جزء مكمل من المركز الحضاري بما في ذلك بئر قديمة كانت إحدى الآبار التي كانت تروي تلك المساحات الزراعية وأنشأت ثلاث مسطحات خضراء على ارض المركز أضفت عليه لمسات جمالية إضافة إلى غرس العديد من الأشجار المثمرة مثل الرمان، الخوخ، العنب، الكمثري والمشمش وغيرها.
ومن ضمن قاعات النزل قاعة كنت منذ البداية أفكر أن أحولها إلى متحف خاص بضم كل ما يتعلق بي شخصيا ولو مؤقتا إلى أن تتهيأ الأسباب وتسمح الظروف وأقيم متحفا خاصا بي على مساحة أكبر وبمواصفات أكثر ملاءمة بالقرب من متحف قصر النائب كانت هذه البداية لفكرة إقامة متحف خاص بي.
وهذا المتحف الذي يحمل اسمي يضم كل أوراقي الخاصة وصوري وصور عائلتي وفي معظم المناسبات التي شاركت فيها وكل وثيقة تتعلق بي.
قسمت المتحف إلى سبعة أركان.
- الركن الأول: يحكي من خلال الصورة والوثيقة الفترة الأولى من حياتي المكان الذي ولدت فيه، البيئة التي نشأت فيها، المدرسة التي تعلمت فيها المرحلة الابتدائية وتضم صور هذا الركن أربعة أجيال والدتي ثم أنا وزوجتي ثم أولادي ثم أحفادي وكل من هذه الأجيال له علاقة وثيقة بهذا المكان حيث يقع المتحف.
- الركن الثاني: يضم كل ماله علاقة بي منذ انتقالي من قريتي إلى الرياض ثم المنطقة الشرقية ثم العودة إلى الرياض.
- الركن الثالث: مرحلة دراستي الجامعية في جامعة الملك سعود منذ التحاقي بجامعة الملك سعود إلى حين تخرجي منها قصة تحكيها الصورة والوثيقة. يتخلل هذه الفترة وثائق وصور أول رحلة لي إلى خارج المملكة.
- الركن الرابع: يحكي قصة ابتعاثي للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية جامعة كنساس وفي هذا الركن العديد من الصور والوثائق والشهادات وأنواع النشاطات التي ميزت هذه المرحلة.
- الركن الخامس: ويمثل مرحلة التحاقي بجامعة كمبريدج في بريطانيا وهي مرحلة غنية تمثلها الصور والوثائق الكثيرة وبطاقات الجامعة وبطاقات استخدام المكتبة وبطاقات العضوية في بعض الجمعيات والمنتديات ووثائق القبول في الجامعة والمراسلات المتعددة حول هذا الموضوع وبطاقات ركوب القطارات وغير ذلك ثم شهادة الحصول على الدكتوراه ويضم هذا الركن العديد من الصور ووثائق رحلاتي العلمية ومشاركاتي في المؤتمرات العلمية الدولية والمحلية.
- الركن السادس: ويمثل مرحلة العودة من البعثة والالتحاق بجامعة الملك سعود عضو هيئة تدريس بها ووجدت هذا الملف مثقلا بالوثائق ستكون ضمن المكتبة الشخصية الوثائقية وبهذه المكتبة الوثائقية أودعت كل رسائلي الشخصية إلى أفراد أسرتي والرسائل إلى الأصدقاء ومن جميع أنحاء العالم.
- الركن السابع: ويمثل مرحلة عضويتي في مجلس الشورى منذ صدور الأمر الملكي بتعييني عضوا في هذا المجلس مرورا بمشاركاتي في الزيارات البرلمانية إلى العديد من البلدان ويضم العديد من الهدايا التي قدمت لي خلال هذه الزيارات.
ويضم المتحف العديد من الدروع والميداليات والتكريمات التي منحت إياها من بعض المؤسسات العلمية والأكاديمية وغيرها من الجمعيات والأشخاص.
كما يضم المتحف العديد من مقتنياتي الشخصية مثل بعض الراديوهات القديمة منها والحديثة ومحافظ النقود ودفاتر المذكرات والعناوين وسبعة جوازات سفر وأول تذكرة طائرة ركبتها في أول رحلة خارج المملكة وخاصة إلى أوروبا عام 1968م.
وكاميرات التصوير التي تعود تواريخ اقتنائها إلى مراحل مبكرة وبعض الأختام.
ومن مقتنيات المتحف النادرة والمهمة التي أعتز بها قلم ذهبي أهدي لي من الملك فهد بن عبد العزيز حينما كان وزيرا للداخلية عام 1964م لتفوقي في معهد الجوازات وحصولي على الترتيب الثاني بينما كنت أنافس بقوة على المركز الأول.
أما ما يلفت الانتباه من محتويات المتحف فهو وجود أحد عشر البوما تضم مئات بل آلاف بطاقات للتعارف (Business card) يعود بعضها إلى أوائل الستينيات الميلادية من القرن الماضي تحمل أسماء شخصيات مرموقة من وزراء ورؤساء وزارات وسفراء ومديري جامعات ومديري شركات وأكاديميين بارزين ورجال أعمال بارزين وبرلمانيين وصحفيين ومن كل القارات والجنسيات.
ومن الجميل ما يضمه المتحف عشرات بل ربما مئات من تعليقات زملائي أعضاء مجلس الشورى على العديد من مداخلاتي ووجهات نظري التي طرحتها في المجلس على مدي ثلاث دورات تناولت تلك المداخلات العديد من القضايا التي كانت تناقش في مجلس الشورى فيها ما كان مؤيدا وهى الأغلبية، وفيها من كان معارضا وفيها ما كان منتقدا، وكيف ما كان الأمر تظل شهادات أعتز بها في حياتي وبعد مماتي.
أخذت المبادرة في إقامة هذا المتحف في حياتي لكيلا أحمل أحدا من أهلي من بعدي مشقة القيام بهذا العمل لو فكر أحدهم القيام به، ولا أريد لحياتي أن تكون عابرة دون أن يكون لها أثر.
يتصدر المتحف ركن خاص بشهادة تقدير أعتز بها مصحوبة بميدالية ذهبية من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تشهد لي بتميزي وتميز أعمالي في مجال تاريخ المملكة والجزيرة العربية.
وفي أسفل ذلك الركن وتحت الميدالية والبراءة التقديرية موقعة من قبل الملك سلمان نفسه وصنعت العديد من أعمالي ومؤلفاتي المنشورة والتي تزيد على خمسة وثلاثين عملا تاريخياً لكي تؤكد جدارة ثقة من منحني هذا بأن تقديره في محله.
ومما سيضاف للمتحف مكتبة صوتية تضم كل مقابلاتي التليفزيونية ولقاءاتي الإذاعية وفي المنتديات العلمية داخل المملكة وخارجها وستشكل سجلاً تاريخيا يحفظ للأجيال ويحكي قصة تاريخ مرحلة.