د. محمد عبدالله الخازم
يأتي يوم العيد الوطني كذكرى سنوية نحتفي فيها بوطننا، نتذكر أفراحه وأتراحه، نستشعر همومه وإنجازاته. بعد تحية القيادة السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده وولي ولي عهده حفظهم الله جميعاً، وبعد تجاوز الأحداث القريبة التي مر ويمر بها وطننا، سواء في الحرب أو في موسم الحج، والترحم على الشهداء والموتى في الأحداث التي مرت بها بلادنا، نأتي على ذكرى حدث بارز في مسيرة عام مر من عمر وطننا؛ ألا و هو غياب القلب الكبير عبدالله بن عبدالعزيز، عليه رحمة الله. غاب بجسده، لكننا نتذكر طيبته، بسمته وحنانه. غاب لكن لن تغيب سيرته عند احتفاليات الوطن هذا العام وفي مستقبل الأيام، لأن أعماله ستبقى شواهد يتداولها وينعم بها أجيال الوطن القادمة. وحينما أشير إلى ذلك، فإنني أؤكد بأنه رحمه الله، وضع لبنات كبرى للمستقبل، أو يمكن القول بأنه كان صاحب رؤية استراتيجية تسهم في رؤية لمستقبل الوطن وليست مجرد رؤية تتعامل مع مشاكل وصعوبات اليوم.
شواهد كثيرة تؤكد ذلك، لعلنا نذكر ببعضها في المناسبة الوطنية الاولى التي نشهدها في غياب الراحل عبدالله بن عبدالعزيز. هذه الشواهد نؤكد عمق الإستراتيجية التي وضع بعض غرسها - رحمه الله- وسنواصل جني ثمارها بشكل أكبر وأكبر في المستقبل، متى استطعنا الحفاظ عليها وتنميتها.
منذ أن كان عضداً وسنداً لمن سبقه من إخوته الملوك الكرام، عمل الراحل عبدالله بن عبدالعزيز على إنجاز المهام الموكلة له على أكمل وجه وأبرزها ما أحدثه من تطوير لجهاز الحرس الوطني، حتى أصبح درعاً حصينة داعمة لقواتنا المسلحة والأمنية. ولم يكن التحديث مجرد فعل قصير الأمد بل إنه صنع جهازاً حامياً لمستقبل هذه البلاد. لم يكتف بالتطوير العسكري بل إنه استشف بأن بلادنا لازالت فتية تنمو في مختلف الاتجاهات، فجعل الحرس الوطني مساهماً في كل مجال يمكنه الإسهام فيه؛ التعليمي والثقافي والصحي والاجتماعي.
واصل جهوده - رحمه الله- بعد توليه الملك، فأحدث تغييرات واضحةً على مستوى كثير من الصعد المحلية والسياسية، وبشكل متأن وبالذات ما يمس منها الجوانب الاجتماعية والإدارية والسياسية، حيث توجد حلقات معقدة من المفاهيم والقوى التي يجب مراعاتها عند أي تغيير، بعضها داخلي ضمن دائرة التغيير وبعضها خارج دائرة التغيير، لكنه يتأثر ويؤثر فيما يحدث. الملك عبدالله بما يحمله من مكانة وسط الأسرة الحاكمة ونظرة ثاقبة نحو مستقبلها ومستقبل البلاد استطاع اتخاذ القرارات الصعبة التي تقبلها إخوته وأفراد الأسرة الحاكمة. وأهمها ترسيخ مبدأ تعيين الأكفأ حتى ولو كان أصغر سناً أو حتى لو كان من الجيل الثاني في الأسرة الحاكمة. وهذا يؤمل منه ضخ مزيد من الديناميكية في التحديث والتطوير والإدارة التنموية للمملكة.
إذا كان التحديث يعترض لصعوبات داخل الدائرة الصغيرة وقد استطاع الملك عبدالله- رحمه الله- بطريقته المتأنية إحداث ذلك التغيير على مستوى الإدارة العليا، فإن هناك تحديثاً أوسع تعامل معه رحمه بشكل متدرج كذلك.
أضخم الملفات التي كانت وما زالت تؤرق مجتمعنا كدولة وكبيئة اجتماعية تتمثل في حرية التعبير- الفكر قبول الآخر وتطوير العنصر البشري وتفكيك التابوهات الاجتماعية التي تحولت إلى أيدلوجيات معيقة للتطور والتحديث.
رفع سقف الحرية الإعلامية لم يكن فعلاً منفرداً بل جاء ضمن إستراتيجية أحد محاورها الرئيسة الأخرى تفعيل مبدأ الحوار الوطني، وكلنا يعلم كيف كانت حلقات الحوار، بالذات الأول منها، فعلاً غير مسبوق في تقبل وجهات النظر من كافة الأطياف والفئات التي تعيش على أرض الوطن وكيف فتحت موضوعات حساسة للحوار مثل نحن والآخر والمرأة في مجتمعنا، بل وفتح المجال لنقد مؤسسات الوطن الكبرى تحت قبة الحوار مثلما حدث في حوار التعليم والقضاء وغيرها من الحوارات.
لقد وصلت حدية القطيعة الفكرية والمذهبية لدينا ألا يجلس البعض مع الآخر المنتمي لمذهب آخر. وعن طريق الحوار الوطني بدأ الملك عبدالله في تكسير تلك النظرة الشاذة التي كان ينظرها المواطن لأخيه المواطن من مذهب لآخر. وقد امتد توجهه رحمه الله في هذا الجانب إلى تبني دعم الحوار بين اتباع مختلف الديانات.
وامتداداً لتوجهات الملك عبدالله في التغيير وكيف أنه في سبيل التغيير استطاع بصبر وحكمة اختراق معاقل وتابوهات، كانت مغلقة وكل يحاول تجنب فتحها اتقاء لصعوباتها ولما يحمله بناتها وحماتها من حضور دعائمه أسلحة التخوين والتشكيك التي يرجمون بها كل من لا يتفق مع رؤيتهم. فتح الملك ملفا فكريا وتنمويا آخر، له حساسيته الاجتماعية والأيدلوجية، ذلك هو موضوع المرأة على مستوى تعليمها وعملها ومشاركتها السياسية والتنموية وقد تعامل الراحل مع هذا الملف وفق إرادة صبورة ومتأنية لكنها هادفة وواضحة. فعلى مستوى التعليم فتحت مجالات كانت مقفلة أو شبه مقفلة أمامها، مثل برامج الابتعاث لكافة التخصصات وفتح تخصصات جديدة لها بالجامعات السعودية ومؤسسات التدريب كمؤسسة التعليم التقني والتدريب المهني كتخصصات القانون والهندسة والتقنية وغيرها. صاحب ذلك الاعتراف بالنساء ضمن حسابات التوظيف والبطالة.
أصبحت المرأة مثل الرجل تناقش قضاياها وتطرحها بجرأة في ظل سقف الحرية الإعلامية التي دعمها عبدالله بن عبدالعزيز وصانها وحماها.
الفلسفة هنا واضحة وليست تخدم المرأة فقط، بل تخدم البلد ككيان والأمة كثقافة، وهي ببساطة تتمثل في التنوع وإتاحة الخيارات المتنوعة للجميع. لا وصاية لأحد على أحد في خياراته الأساسية. فجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية متخصصة للبحث العلمي والدراسات العليا وليس ما يمنع الاختلاط فيها، وفي المقابل جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن نسائية بالكامل، ومثلها التخصص العلمي متاح لكل فتاة وذويها اختيار ما يناسبها ولكل فتاة وذويها اختيار العمل. البعض يدندن عند الحديث عن المرأة بالأسطوانات البلاغية المعتادة من كونها أماً وأختاً وزوجة ولها تقديرها في بيتها، لكنه لا يمنحها ما تستحقه من تقدير ومشاركة. الملك عبدالله لم يكتفِ بمجرد الأقوال المخدرة، بل انحاز للفعل فحقق للمرأة التمثيل في مجلس الشورى بنسبة 20% وهي نسبة تمثيل ربما لا توجد في أي دولة عربية أخرى ولا في بعض برلمانات العالم المتقدمة. كما أنه وجه بإشراك المرأة في الانتخابات البلدية المقبلة وتعيينها في مستويات وظيفية عالية كتعيينها نائبة وزير ووكيلة وزارة ومديرة جامعة.
المستقبل هو أبناء وبنات البلد والتاريخ يشهد أن أكبر توسعة في التعليم العالي وفي البعثات التعليمية الخارجية حدث في عهد الملك عبدالله. أكثر من مائتي ألف مبتعث ومبتعثة وأكثر من عشرين جامعة في أقل من عشر سنوات ودعم مباشر لتجهيزها وإنشاء مقراتها ودعمها بكل ما تحتاج إليه، دليل بارز على أن الراحل كان منصباً تفكيره على المستقبل والأجيال القادمة وكانت رؤيته تمثل استراتيجية تستشرق المستقبل.
كان رحمه الله حريصاً على وضع لبنات المستقبل، لكنه أدرك بأن بعض الإصلاحات تحتاج تسريعاً فزاد الدعم للتعليم والقضاء والنقل والصحة بمبالغ تتجاوز الميزانيات المرصودة إلى إنشاء برامج تطويرية خاصة مدعومة بمليارات الريالات.
أرسى مشاريع كبرى بشكل مباشر وكلف جهات ذات خبرة كأرامكو بتنفيذ مهام محددة، خارج إطار اختصاصها، حرصاً على سرعة التنفيذ وجودته. جاءت في عهده أكبر نقلة للنقل العام بمشاريع عملاقة في المدن وبمشاريع القطارات التي منها قطار الشمال وقطار مكة المدينة وغيرها، وقطاع الإسكان وغيرها من المشاريع العملاقة. ومع كل هذا الدعم حرص رحمه الله على حفظ المال العام، يؤكد ذلك ما نشهده الآن من وفرة في الاحتياط العام ونقص في الدين العام. نظرته للمستقبل شكلت صمصام أمان لنا الآن في ظل تدهور اسعار البترول وظروف الحرب التي نعيشها.
ونحن نبارك ونهنئ للوطن عيد ميلاده المجيد، نؤكد بأنه ما زال هناك الكثير من الطموح والأمل الذي تحمله قيادة هذه البلاد نحو التطوير وعلى رأسها الملك سلمان، وهو الذي كان عضداً وسنداً لأخيه الراحل، عبدالله بن عبدالعزيز. التاريخ سيبين أن ولاة أمر هذه البلاد وقادتها يشكلون حلقات متواصلة يكمل كل منهم مسيرة البناء التي سبقها سلفه. ما زال هناك طموحات تحملها قيادة الملك سلمان وأخرى يحملها الناس تلتقي كلها -بإذن الله- في مصلحة هذا الكيان العظيم، المملكة العربية السعودية. ربما نحتاج سرعة أكبر في تحقيق الرغبات ولا يضيرنا في زمن حرية التعبير أن نعترف بوجود سلبيات تصاحب هذا المشروع التنموي والفكري الضخم، بعضها نستطيع التغلب عليه بالإرادة والتصميم والحكمة وبعضها نتاج طبيعي لورشة التغيير السريعة التي تمر بها البلاد على المستويات الفكرية والتنموية والاجتماعية. لا أحد يدعي الكمال، ومن يدعيه فذلك دليل توقف عن النمو وعن تحقيق مزيد من الأحلام.
حفظ الله وطننا وزاده رفعة وتطوراً بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.