ياسر حجازي
-1-
الوعي العلمي المادي على مسارٍ في أبحاثه وتجاربه أنّ الإنسان يتقدّم كلّما ارتفعت في وعيه حتميّة القوانين السببيّة والمادية، وانخفضت الماورائيّات والغيبيّات وتراجع ربط المجهولات ربطاً على غير سياق سوى الاعتقاد بوجود أسرار تربط هذا اللامعقول بالمعقول؛
وبصياغة أخرى: كلما تمكّن الوعي من إخضاع الظواهر إلى أسباب ماديّة تمكّن من تقليص الظواهر المجهولة الأسباب أو المنسوبة في المخيّل اللا-علمي بعلل من خارج الطبيعة.
فماذا يعني أن يقول الوعي العلمي المادي: “لم تعد هناك أسرار في العالم”؟
تعني أنّ الظواهر الكونية والإنسانية بدأت أكثر من أي وقت مضى مربوطة بأسباب مادية يمكن دحضها أو إثباتها أو ملاحظتها دون ربط هذه النتائج بحقائق نهائيّة من خارج الوعي الإنساني المادي، فيكون السبب والنتيجة وطريقة الربط بينهما متاحة للجميع دون خصوصيّة أو سريّة سوى القدرة العلميّة الاستيعابيّة؛ فلم يعد في الوعي العلمي المادي ظاهرة لم تربط بسبب علمي أو افتراض علمي خاضع للفحص والتأكيد والبحث، فالعلم لا يعرف الأكيد المطلق، فكل حقيقة مادية من طبيعتها أنها ليست نهائية، وأمام العلم والعلماء ما يقدرون عليه لتطويرها أو نقضها وإتيان البديل المادي الآخر، وليس بديلا ما-ورائياً بطبيعة الحال.
وأنت هنا في قراءة الوعي الغيبي الماورائي الذي تغيب عنه الموضوعيّة والقوانين السببيّة، والذي تغلب فيه الظواهر المربوطة بالمجهول على أنّه جزء من حقائق نهائيّة مقدّسة بسبب غياب القوانين السببيّة التي تربط الظواهر بالأسباب، فأنت لا تتوقّع منه –وهو غارق في تيه الشخصانيّة والتبعيّة الشخصانيّة والاستسلام لما آل إليه على أنّه نهائيّ- أن يتعامل مع واقعه بوعي مادي علمي كما حاله عند شريحة العلماء الماديين، ونحن هنا لا نقصد أنّ الوعي المتأثّر بالمجهول والمستسلم لحقائق نهائيّة لا بد أن يمرّ بمراحليّة، فذاك مقام آخر، ولكن المقصد من هذا التقديم إظهار هذا العجز في التوفيق بين أسلوبين في التفكير والتعامل مع الواقع يختلفان تماماً: كيف يتعامل الوعي اللا-موضوعي مع حضارة مركزية يتأثر بها ويعتاش من ورائها، وتعتمد في تعاملاتها مع الواقع على أسسس موضوعيّة بحتة؟
-2-
الاستفادة من التاريخ لا تعني إحضار التاريخ لتحكيم الواقع وفضّ منازعاته، بل المقصد قراءته والوقوف عند أخطائه، وقراءة طبيعة حسم النزاعات تحت منطق الإلغاء والتصفيّة أنّها لم تكن لتنجح دون أدوات العنف والقوّة المفرطة في وجود خصمٍ لا يقدر على مقاومة هذا العنف بما يحفظ توازنه وبقائه، أمّا دون ذلك فإنّ كلّ المحاولات التي تزعم في نفسها السلميّة ثمّ تتّخذ في خطابها سياقاً تاريخياً، أو سياقاً يُضفي شرعيةً باللجوء إلى أيّ مبرّرات لا تستند إلى الواقع فإنّ هذه الخطابات تحمل إقصاء لا محالة، لأنّها لا تقرّ وتدافع عن حقّها في الوجود إلاّ عبر إقصاء الآخر استناداً إلى أوهام تاريخيّة (استناداً إلى ما يُشبه السرّ والسحر والخصوصيّة)، عادةً ما يمكن دحضها، ولا يمكن حكماً اعتمادها حكماً لحركة الواقع، وإلاّ لبقيت الجماعات على حالة نشأتها الأولى وما آل التاريخ إلى دول تتعاقب فيها الجماعات بين تعايش وإقصاء؛ وكلا التعايش والإقصاء يتأثران في نسب حضورهما كوسائل عيش بين الجماعات المختلفة بتأثّر حركة الوعي التعدّدي، إذا يمكن رصد المعادلة التالية: أنّ نسبة التعايش ترتفع كلّما زاد الواقعية التشريعيّة وتجاوزت أوهام الخصوصيّة التي تُبرّر الإقصاء والتصادم الحسمي، وكلّما تراجعت الواقعية ارتفعت نسبة الإقصاء إلى حدود تفتت فيها الجماعات وصولاً حتّى تدمير إنسانيّة الإنسان، والمسار التاريخي وصولاً إلى واقع اليوم هو مسارٌ تصاعديّ لمصلحة التعايش على إلإقصاء، وإن كان الإقصاء لم يزل حيّاً في دول العالم الثالث إلاّ أنّه لم يعد نموذجاً، كما لا يستطيع أيّ نظامٍ إقصائي أن يدافع عن مبرّراته في الإقصاء تحت ظروف واقعيّة، ويبقى النموذج التعدّدي كيفما يُطرح (وعلى علّاته) هو التوجّه الذي تتطلع إليه الكثيرمن الشعوب، ولا يمكن نكران قيمته الداخليّة للجماعات المختلفة تحت كيانٍ واحد.
-3-
يعني فقدان السرّ -بوجه من الوجوه- خسارة للخيال اللا-واقعي، خسارة اللامعقول ورميه في اللا-جدوى: فالعيش مع التصورات غير الموضوعيّة يجعل المرء منتظراً حدوث تغيير عبر لا-شيء، مجرّد انتظار لتغير الواقع دون أيّ جهد سوى أحلام في المخيّيل تقتل الإرادة، فتأتي نتائج حركة الواقع لتدخل تلك التصوّرات في دوامة التيه أو المواجهة الخاسرة، ممّا يسقط بذلك الكثير من التصوّرات الماورائية و(الحقائق) اللا-موضوعية التي كان يسلم بها، وهو ما يبرّر له مُعاداتها، بل ومحاربتها أيضاً، وهو ما يفسّر صعوبة انشار العلم المادي الذي يتصادم مع وعي يعقلن اللا-معقول، وعي لا-موضوعي يستند في وجوده وحقوق وجوده إلى جميع تلك التصورات التي يدحضها العلم والواقع فكيف يتصالح معهما؛ فبدلاً من استحقاق الواقع تجد (العربي) يريد مكانة بالاتكاء على الماضي، تحت تصوّرات صفوته وفرادته وتميّزه، وهي تصوّرات لا تختلف عن التصوّر الاسرائيلي الاصطفائي (التاريخي) ثم التصوّر النازي حديثاً، وحينما نقول: إن العلم رفع الاسرار جميعة، فإلى أيّ مدى يمكن أن تصمد هذه المثاليات الخيالية في عدم قدرتها على انتاج استحقاق واقعي من خارجه؟ وهل من سبيل إلى محاصرتها إلاّ بتشريع العلم ومنحه ما يستحقّ من حريّة وسلطان.
هكذا أيضا تسقط نظريات المؤامرة على كثرتها، وتعود المسوؤلية الى أصحابها؟ فنظرية المؤامرة تتغذّى على عقليّة لا-موضوعيّة تؤمن بالأسرار، وتؤمن بسرد قصصي للأحداث لا يعنيها السببية والعللية بقدر ما يعنيها (الأبطال-الشخوص-الخارقين-الأشرار) وهكذا، عقليّة متأثّرة ومحاصرة بالأشخاص لا بالمواضيع وقيمتها، يكون عدوّها الأوّل هو الواقع الذي لا يؤيّد حقائقها اللا-معقولة.
كيف السبيل إلى تحرير المعقول من لا-معقولات علقت به بسبب غياب الموضوعيّة والقوانين السببيّة؟! كيف يمكن للعلم المزيّف الذي ننهل منه يوميّاً على أنّه من العلم بينما يجاوره تحريف لا يريد أن يتخلّى عن الأوهام والأسرار في تعاطيه حتّى مع العلم، ويجنح في علاقته من العلم لتثبيت أوهامه وليس للاستفادة من العلم في إدارة الواقع، والمعضلة أو السبب في هذا التحريف وهذا التصادم: أنّ العلم والواقع لا يعرفان العاطفة والشخصانيّة في مسألة الحقائق والصلاحيّة ولا يستسلمان للأسرار والشخوص والحقائق، وهما بهذا الخصوص تحديداً يقضيان على مخزونه الذي يظنه السلاح الأقوى في مواجهة جبروت الواقع وأسبابه.