م. عبدالعزيز بن محمد السحيباني
«المدن الجديدة» أسلوب في التخطيط العمراني طبقه كثير من الخلفاء وأمراء الدول الإسلامية.. فقد اختط الخليفة العباسي المنصور «بغداد» وأسماها المدينة المدوَّرة لأن أسلوبها التخطيطي جاء على شكل دائرة ولايزال التوسَّع في هذه المدينة. وفي وقتنا الحالي يأخذ شكل الدائرة فالأساس هو النواة «مركز المدينة».. ومن هذه المدن أيضاً التي اختطت في ذلك العهد «سامرَّاء» والتي فكَّر الخليفة العباسي «المعتصم بالله» ببنائها بعد أن لاحظ زيادة عدد السكان بالعاصمة بغداد و»زخم أجوائها» أي بتلوث أجوائها، ولاحظوا أن ذلك في عهد لم توجد فيه عوادم سيارات أو أدخنة مصانع أو مصافي..نفط. وقد حدد الخليفة العباسي عدة عوامل لاختيار الموقع الجديد للمدينة:
1 - حسن أجوائها وطيب هوائها حيث أقام في هذا الموقع ثلاثة أيام ليتأكد من مناسبة الأجواء كموقع للمدينة.
2 - توفر الماء وسهولة وصوله نظراً لقربها من نهر دجلة.
3 - إمكانية البناء فيها «طبوغرافية الأرض»... ثم كلَّف من يقوم بتصميم المدينة ومبانيها وساحاتها وجوامعها.. وحتى يكون القدوم إليها مشجعاً فقد أقطع الحرفيين من نجارين وحدادين مباني لأعمالهم ومنح الأراضي للسكان مجاناً للبناء فتطورت المدينة وبلغت حداً عظيماً من التطور.
ومن المؤسف أننا في هذا الوقت لا نقيم وزناً لتخطيط المدن يعتمد على هذه العوامل المعروفة، ونشوء مدننا الحالية نشأ لعدة أسباب منها إما لسبب اجتماعي «كوجود قبيلة نشأ أفرادها مجتمعين في مكان معين» فبدأت تنشأ المدينة لهذا العامل فقط دون النظر إلى المقومات الأخرى «طبوغرافية الأرض» أو «إمكانية التوسع» في الموقع وعدم وجود عوائق جغرافية، أو توفر المياه، فكثير من المدن نشأت لهذا السبب وبدأت تتوسع لهذا العامل الاجتماعي فقط وأهملت الجوانب الأخرى وقد سبب ذلك الكثير من المعاناة للمخططين فيما بعد حيث اصطدمت كثير من المدن بعوائق طبوغرافية كالجبال، والأودية، أو كثبان الرمال.
وقد عانت مدننا من ما يمكن أن نعتبره قصوراً في التخطيط المدني وذلك بسبب نشأتها القديمة في مواقع فرضت نفسها فرضاً على السكان.. فقد نشأت معظم المدن إما بسبب وجود مورد مياه حولها وكبرت المدينة بغض النظر عن طبوغرافيتها أو موقعها فالأهم من ذلك هو مورد المياه بغض النظر عن وجودها على وادي يسيل سيلاً عرمرماً أم لا، وحول أرض زراعية خصبة تتم زراعتها بالمحاصيل الزراعية التي تعيش عليها المدينة بغض النظر عن كونها سفح جبل أو في أرض زلزالية، أو حول كثبان رمال تطغى عليها، فالأهم من ذلك الوقت هو الحصول على الماء، والتغذية من المحاصيل الزراعية وكانت هي العوامل الأهم وما يبني عليه (مخططو) القرية لقريتهم التي تحولت إلى مدن عامرة وكبيرة في وقتنا الحالي، أو لسهولة الوصول إليها.. أما في زماننا الحالي فقد تغيرت الظروف تغيراً كبيراً عن ما كانت عليه الظروف قبل 50 عاماً أو أقل من ذلك، حيث أن الحصول على المياه أصبح سهلاً من مشروعات المياه، والوصول إلى المدن أصبح سهلاً بفضل شبكات الطرق، والمواد الغذائية والتموينية أصبحت تجلب من كل مكان بواسطة وسائل النقل وتباع في الأسواق بل وتستورد من كل أنحاء الأرض بعد أن كان الحصول عليها من مزارع صغيرة بجانب القرى، بينما المدن تمددت وفرضت الظروف السابقة موقعها، وكان من آثار ذلك:
1 - عدم مناسبة مواقع كثير من المدن، حيث إنها كانت قرى صغيرة عند نشأتها وتمددت ملتهمة الأودية والشعاب التي نشأت القرى حولها لسهولة الحصول على المياه منها، وهذه الأودية والشعاب أصبحت مصدراً للكوارث التي تحدث أثناء هطول الأمطار كما حصل مع كارثة مدينة جدة، أو أنها أصبحت في جبال وعرة مما يعيق عملية البناء بها، كما هو في بعض مدن المنطقة الجنوبية التي نشأت على سفوح جبال وكانت تعيش على الزراعة المطرية على المدرجات مع صعوبة الوصول إليها، وأصبحت هذه الجبال عوائق طبوغرافية تمنع التمدد العمراني وشق الطرق.
2 - أصبحت الأراضي التي يمكن تخطيطها من قبل الحكومة لخدمة سكان المدن أملاكاً خاصة أو مزارع خاصة لأهل القرية نفسها لا يمكن التفريط فيها أو أراضي مختلف على ملكيتها مما أعاق عمليات التخطيط لهذه المدن بعد أن كبرت وتمددت. ونشأت حول هذه المدن مخططات عشوائية بدائية ذات شوارع ضيقة أو متعرجة وتمددت، وذلك بسبب النشأة البدائية الأولى للمدينة والتي نشأت قبل نشوء جهاز التخطيط والتنظيم للمدينة أو (وزارة الشئون البلدية والقروية)، وبسبب النشأة الاجتماعية للمدينة.
3 - قد تكون هذه المدن التي نشأت وكان أصلها القرى التي نشأت قبل أجهزة التخطيط المعماري والمدني في مواقع غير مناسبة لإيصال الخدمات، فقد تكون في أرض جبلية يصعب حفرها لتمديد خدمات المياه والصرف الصحي، أو شق طرق إليها، وقد تكون في أرض رملية تسفي عليها الرمال فتطمر مبانيها وطرقها، أو قد تكون في أراضٍ ملحية سبخة تتآكل بسببها المباني الخرسانية، إلى غير ذلك من الظروف البيئية المختلفة.. وقد أخطأنا خطأً فادحاً حين جعلنا هذه المدن تفرض مواقعها هي بنفسها دون تحديد للموقع وحين بنينا مدننا على مخططات عشوائية، مما جعل هذه المدن تتمدد تمدداً عشوائياً بطرق متعرجة ذات منحنيات قاتلة، أو بشوارع ضيقة جداً لا تناسب حجم حركة المرور المتزايد، ولابد من تدارك هذا الخطأ التخطيطي وعدم الاستمرار عليه، ولا يأتي ذلك إلا ببناء (المدن الجديدة)، وهناك عدد من العوامل تؤيد هذا التوجه منها:
1 - أننا قارة واسعة جداً ذات صحاري شاسعة ومنبسطة ولا يوجد فيها كثير من العوائق التي توجد في دول أخرى فلسنا كاليابان التي تدفن البحار للحصول على (اليابسة) ولسنا كالبرازيل أو الأرجنتين التي تقضي على الغطاء النباتي ومصادر الثروة لللحصول على أراضي فضاء للبناء فيها. ومن حسن حظنا أننا نعيش في بلد شاسع المساحة يمكن أن تنشأ فيه مدن جديدة، بدون أي تكاليف إضافية وبدون تأثير على أي مصدر للثروة. وصحارينا صحارى نقية الهواء بعيدة جداً عن الملوثات والمصانع، ونقاء الهواء من أهم العناصر التي يحرص عليها مخططو المدن قديماً وحديثاً.. فالهواء هو الذي تتفسه المدينة بأكملها.
2 - إن المدن وحتى القرى الحالية لا يوجد أي مجال لإعادة تخطيطها أو حتى تخطيط ما حولها بدءاً من نقطة الصفر..فلابد من إزالة المدينة بكاملها وإزالة شوارعها وإعادة تخطيطها من جديد، وهذا شيء مستحيل، حيث نشأت المدن على مخططاتها القديمة والحديثة، والتي أسست قبل النهضة العمرانية؛ وما بني على خطأ فهو خطأ وعليه تتراكم كل مخططات المدينة إضافة إلى أن الأراضي الفضاء لم تحكم الجهات المختصة قبضتها عليها مما صاحب ذلك من تعديات على الأراضي الفضاء حول المدن وداخلها وبالتالي أصبحت كل الأراضي التي يمكن إقامة مخططات سكنية عليها إما عشوائية التخطيط أو أصبحت أملاكاً خاصة لا يمكن نزع ملكيتها إلا بأثمان باهظة تفوق أثمان إقامة مشروعات عليها.
أما في حالة إيجاد (مدينة جديدة) بدءاً من الصفر فيمكن أن تتحكم الجهات الرسمية المختصة في الأراضي المخصصة للمدينة بكاملها وجميع ما حولها من أراضي وتصدر صَّكاً شرعياً بملكيتها بالكامل بدءاً، ومن ثم تقوم بوضع المخطط على الطبيعة على هذه الأراضي بكاملها، ويمكن تلافي الثغرات السابقة التي أعاقت التخطيط وما صاحبها من سوء إداري يتعلق بالأراضي الحكومية البيضاء.
3 - إمكانية تطبيق قوانين الاستثمارمقابل الأرض.. حيث إن نظام (تأجير العقارات) الصادر مؤخراً يتيح للمستثمرين بناء المخططات الحكومية (أي تنفيذ الخدمات عليها) من سفلته وأرصفة وإنارة وغيرها مقابل استثمار جزء من هذا المخطط.. ولكن هذا المبدأ اصطدم بعدم توفُر الأراضي الحكومية التي يمكن استثمارها وتعارض نظام القضاء مع نظام التخطيط الحضري وعدم وجود ربط بينهما.. كما أن تداخل الأراضي الزراعية الخاصة بالزراعة مع الأراضي الخاصة بالعقارات وعدم وجود نظام واضح وصريح يحدد المخططات الزراعية الخاصة بالزارعة والخاصة بالاستراحات والخاصة بالمنازل السكنية أوجد نوعاً من الغموض والتداخل مما حال دون وجود أي مخططات حكومية.
أما في حالة وجود أرض فضاء بعيدة عن المدن وعن زحف التعديات فيمكن أن يتم تطبيق مبدأ (الاستثمار مقابل الأرض) وذلك كما يلي:
أ- يتم منح أرض خام لمطوِّر عقاري يقوم بتطوير هذه الأرض بكامل مرافقها (مبانٍ سكنية - إنارة - أرصفة - سفلتة)، وهذه الأرض تعطى للمستثمر أو المطوِّر مجاناً وذلك بهدف حذف قيمة هذه الأرض من ثمن المنزل السكني الذي يتم بيعه على المواطن، وبهذا تساهم الدولة في تخفيف العبء على المواطن الذي يظل يبحث عن أرض مناسبة وصلت إليها الخدمات داخل المدن بثمن يماثل قيمة بناء المسكن وتخضع لجشع تجار العقار الذين أصبح المواطن ضحيَّة سهلة لهم، وبالتالي جاءت أزمة السكن لدينا، حيث اتجهت أموال الاستثمار إلى الأراضي البيضاء في داخل المدن وفي تخومها وأصبحت الأموال مستثمرة في أرض بيضاء لسنوات طويلة، وفي مجال استثماري غير منتج ولا يضيف أي قيمة للاقتصاد الوطني.
ب- مقابل التسهيلات التي تقدم للمطوِّر من قبل الجهة المختصة.. (سيتم تحديدها لاحقاً) لابد من أن يقوم المطوِّر العقاري ببيع الوحدات السكنية على المواطنين بسعر تكلفة البناء فقط، حيث إن الأرض مجانية من الدولة، والخدمات الأخرى مثل: (المياه، الصرف الصحي، الهاتف، الكهرباء) يتم تقديمها من قبل شركات متخصِّصة تأخذ أموالاً من المواطنين مقابل هذه الخدمات فيتم إلزام هذه الجهات ببرنامج لتنفيذ هذه الخدمات كبنية تحتية وذلك تحت ضمانات من الدولة للحصول على حقوقها مقابل هذه الخدمات.
ت- لضمان استفادة المطوِّر العقاري ربحياً حيث إنه شركة ربحية ويبيع الوحدات السكنية للمواطنين بسعر التكلفة فيتم منحه استثمارات في هذه المدينة الجديدة (المحلات التجارية - الحدائق - محطات الوقود) وهي الأراضي المخصصة لهذه الخدمات مقابل قيمة تساوي أرباحه التجارية التي سيضيفها على قيمة عقاراته التي يبيعها على المواطنين أي أن الدولة بمعنى آخر تقوم بشراء هذه الأرباح مقابل الخدمات الاستثمارية أو جزء منها في هذه المدينة الجديدة.. وبذلك فإن الدولة تقوم بإزاحة كابوس هائل عن المواطنين وهي الأرباح الطائلة التي يفرضها تجار العقار عليهم بزيادة أسعار العقار، ولن يُدفع من خزينة الدولة ريالاً واحداً، حيث إن هذه الخدمات التي تقدم للمطوِّر العقاري في أراضي فضاء في صحاري شاسعة لا يستفاد منها لأي غرض، ولاشك أن الدولة بصفتها الجهة البانية للبنية التحتية في البلاد كلها من أداء أدوار رئيسية في مثل هذه المشروعات مثل سفلتة الطرق ورصف الأرصفة وإيصال التيار الكهربائي وبناء المقار الأمنية والدوائر التعليمية والحكومية والتي لا تدخل ضمن شركات خاصة تقدم خدمات محددة للمواطنين وهناك حسنة تميز تنفيذ هذه الخدمات في المدن الجديدة مقارنة بالمدن الحالية المكتظة بالسكان، فالمدارس والجامعات والدوائر الحكومية يتم بناؤها في مواقع تفرض أنفسها أو أن يتم نزع ملكيات أراضي لها في داخل المدن، كما أن تنفيذ خدمات السفلتة يتطلب أموالاً طائلة، حيث إن تنفيذ الخدمات سبق أعمال السفلته وأعمال ترحيل هذه الخدمات يتطلب إنفاق أموال طائلة مقارنة بالمدن الجديدة التي تنفيذ فيها هذه الخدمات بترتيب متفق عليه مسبقاً.
4 - المدن لها عمر افتراضي والمدن مكوِّنة في الأساس من بنية تحتية من الطرق والأنفاق وخطوط الخدمات الأرضية مثل خطوط الصرف الصحي والكهرباء والهاتف، إضافة إلى المباني التي لابد من إزالتها بعد مرور عقود من الزمن، ولنا أن نلاحظ مركز مدينة الرياض القديم (الملز) الذي بدا يتضاءل دوره كمركز تجاري مقابل المركز التجاري والسكني للشمال والذي يبعد أكثر من 25 - 30 كم شمال الرياض؛ فقد نشأ مركز جديد شمال الرياض، وبالتالي سيستمر الزحف (المخنوق) للمدن من جميع الجهات مع الزيادة الفاحشة في أسعار الأراضي.. فلو أن هذا المركز الذي نشأ على بعد 30 كم شمال الرياض (مثلاً) ثم تخطيطه كمدينة جديدة سابقاً لتم تلافي هذه المشاكل وهذا التمدد (المخنوق) للمدينة ولنشأة مركز جديد مستوف لشروط التخطيط كاملة، حيث إن مركز المدينة القديم انتهى عمره الافتراضي ولابد من إزالته بالكامل بمبانيه وبنيته التحتية لإنشاء بنية تحتية جديدة، ومما لاشك فيه ولا جدال فيه أن أعمال إنشاء بنية تحتية جديدة تقل تكاليفها بكثير عن أعمال إنشاء بنية حديثة بدلاً من القديمة حيث تشتمل على أعمال (إزالة + إنشاء) مما يرفع التكاليف بشكل كبير، وبالتالي فإن إنشاء مدن جديدة ببنية تحتية حديثة دعم للاقتصاد وبتوفير الأموال الطائلة التي تدفع لتحديث البنية التحتية القديمة وإزالتها.
تجربة أحياء الإسكان السابقة
لقد خاضت بلادنا تجربة ناجحة بكل المقاييس واعتبر أنها أكثر نجاحاً مما لدى الدول المتقدمة وذلك حين قامت وزارة الأشغال العامة والإسكان إبان تولي سمو الأمير متعب بن عبدالعزيز بإنشاء (أحياء الإسكان في المدن)، حيث إن هذه الأحياء تتميز بما يلي:
أ- تنفيذ البنية التحتية لها مرة واحدة وبجودة عالية، حيث تم تمديد الصرف الصحي والمياه والهاتف والكهرباء والطرق والأرصفة والمباني عن طريق شركة واحدة.
ب- النظام التخطيطي لهذه الأحياء متميز جداً وهو نظام الأحياء المغلقة الذي يحوي قليلاً من النظام الشبكي وهذا النظام التخطيطي راعى خصوصية المنشأة ومركز السيارات.
ج- اكتمال المرافق الخدمية في هذه الأحياء (مدارس - مساجد - حدائق) وتوزيعها بشكل يغطي احتياجات الحي بالكامل.
د- قيام صندوق التنمية العقارية بتقسيط هذه المباني على المستحقين للقروض العقارية بأسعار مناسبة جداً مع أن المبنى قد انتهى مع الأرض وهذا ما حقق ربط (الأرض مع القرض) وهو ما تم إقراره من مجلس الوزراء مؤخراً مع أن هذه الخطوة قد تم عملها بنجاح في مشروعات الإسكان. وما يتم حالياً من قبل صندوق التنمية العقارية هو قرض (نقدي) لا علاقة له بالعقار وليس له أي صفة عقارية ويمكن أن يقوم به أي بنك تمويلي وليت تجربة أحياء الإسكان يتم تكرارها مرةً أخرى فلو تحوُّلت برامج (صندوق التنمية العقارية) إلى برامج إسكانية مماثلة لأحياء الإسكان لتم حل أزمة الإسكان بسهولة، فقد أثبتت التجربة فشل (القرض النقدي) المنفصل عن الأرض والمبنى السكني، حيث إن كل مواطن يحصل على القرض يبدأ بمعركة طويلة مع مقاولين بدائيين جشعين يلتهمون كل القرض في أعمال (العظم) والحديد وبكميات أكثر من المطلوب ولو تم اقتصاد هذه الكميات لتم بناء مبنى بكامل القرض المعطى من الصندوق.
ن- يتولى دور (المدن الجديدة).. غالباً ما تتعثَّر كثير من المشروعات الهامَّة بسبب عدم تحديد المسؤوليات وعدم تحديد الجهة المسؤولة، فوجود عدد من الجهات تتداخل في الأدوار ليصبح من الصعب تحميل المسؤولية لجهة واحدة فالإسكان تتقاذفه عدد من الجهات فوزارة الإسكان والتي وجدت حديثاً لم تقم بدورها (الإستراتيجي) وإنما قامت بدورها
(التنفيذي) مباشرة وبدأت تستجدي البلديات والأمانات للحصول على أراضي لإقامة (مشروعات) للإسكان لذوي الدخل المحدود في وسط مناطق عشوائية وهذا الاستجداء سيفشل دورها حتماً لأن الجهة الأخرى غير مسؤولة عن الإسكان، فهل المسؤول وزارة الشئون البلدية والقروية أو وزارة الإسكان، أو صندوق التنمية العقارية أو وزارة التخطيط؟.. في رأيي فإن مشروع (المدن الجديدة) يجب أن يمر بعدة مراحل، وكل مرحلة تتولاه جهة من الجهات حسب اختصاصها:
1 - المرحلة الأولى: مرحلة الدراسات والتصاميم والتخطيط: وتتولاها وزارة التخطيط، فهذه الوزارة لديها الإحصائيات الكاملة عن السكان و(المساكن) والنمو السكاني والدخل الاقتصادي للسكان وخطط التنمية، وما نحتاجه مستقبلاً من بنى تحتية مبنية على النمو السكاني والاقتصادي، وهي الوزارة التي تحدد الحاجة السنوية من المساكن وكم وحدة سنوية نحتاج سنوياً وهناك إحصاءات تقول إننا بحاجة إلى (مليون وحدة سكنية) على مدى 10 سنوات أي (200.000) وحدة سكنية كل سنة لمدة 5 سنوات فهذه الوزارة لابد أن تضع خطة كبرى ووطنية (للمدن الجديدة) وتحدد مواقفها وما تحتاجه من تمويل ومن بنى تحتية (محطات نقل عام، شبكات صرف صحي ومياه - كهرباء - هاتف).
2 - المرحلة الثانية: الهيئة العامة للاستثمار: بما أن (المدن الجديدة) هي مدن استثمارية ومشروعات طموحة فلا أجد غير الهيئة العامة للاستثمار لتولي هذا الدور، فهذه الهيئة تخلت عن المشروعات الاستثمارية العقارية السكنية التي تهم المواطن وتحل أزمة الإسكان وصار جل اهتمامها بالاستثمار الصناعي والمشروعات الصغيرة غير المفيدة للاقتصاد الوطني. هذه الهيئة يجب أن تنهض بمشروعات الإسكان كمشروعات استثمارية مدعومة من الدولة بتوفير الأرض للمستثمر مجاناً وتسهل مهمته مع الجهات الخدمية الأخرى كشركات الاتصالات والمياه والكهرباء وضمان عدم استغلال هذه الشركات لهذا المستثمر بعدم المبالغة في تكاليف إيصال الخدمات لهذه (المدن الجديدة) والتي يجب أن تكون مشروعاً (قومياً) مدعوماً من الدولة بكل أجهزتها، فتقوم (الهيئة العامة للاستثمار) بطرح مشروعات (المدن الجديدة) بمنافسات عامة ويدعى لها مستثمرون أجانب كذلك، حيث إنه من الصعب قيام المستثمر المحلي بمثل هذه المشروعات الضخمة التي تحتاج إلى رأس مال كبير وإلى خبرة فنية وإدارية عالية، وهناك مثال حي على نجاح المستثمر الأجنبي في الإسكان وهو الأحياء السكنية التي أقيمت في كل مناطق المملكة وهي على مستوى متميز من الجودة في التنفيذ وأصبحت مثالاً يحتذى في أحياء مدننا من حيث تجهيزها وتنفيذها واكتمال خدماتها وحصول المواطن على السكن فيها بتكلفة مناسبة جداً.
3 - المرحلة الثالثة: صندوق التنمية العقارية: بعد أن يقوم المستثمر بتنفيذ المدينة الجديدة يتم تسليمها إلى (صندوق التنمية العقارية) والذي يقوم بدور الضامن الحكومي لأقساط المنازل السكنية التي قام المستثمر بتنفيذها، أو أن يقوم الصندوق بشراء هذه المدن على أقساط لمدة عدة سنوات من المستثمر الذي قام بتنفيذها وتقسيطها على المواطنين.
وبهذه المراحل الثلاثة (للمدن الجديدة) نكون قد قمنا بتحديد المسؤوليات وفصلنا زمنياً مهمة كل جهة من الجهات المسؤولة بدلاً من تشكيل (لجنة) ييروقراطية تعرقل مثل هذا المشروع الوطني.
إن (المدن الجديدة) هي الحلُّ الأمثل لأزمة الإسكان المتفاقمة لدينا ويجب أن تكون مشروعاً قومياً وطنياً لأن أزمة الإسكان تهدد الدخل القومي والوضع الاقتصادي لبلادنا ولابد من تكاتف الجهود لحل هذه الأزمة عن طريق مثل هذا المشروع الوطني الهام.
أنادي مجلس الشئون الاقتصادية والتنموية بدراسة هذه الآلية وهذا المشروع الوطني، فالمجلس مظلة تجمع كل الجهات المسؤولة عن التنمية ولا أعتقد أن هناك أهم من السكن المناسب للمواطن وتوفيره من أهم معززات التنمية وتوفير العيش الكريم للمواطن وخفض نسب التضخم التي أساسها ارتفاع أسعار تكلفة البناء والإيجارات.