د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
رد الفعل السريع القويّ من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- على حادث سقوط رافعة الحرم يبيّن الأهمية القصوى التي توليها الدولة لسلامة المشروعات الإنشائية ومتطلّباتها.
وإذا كان هذا الحادث المؤسف يعدّ من أخطر الحوادث الإنشائية من حيث حجم الخسائر البشرية والمادية، فإن ذلك لا يعنى أن المخاطر التي تتعرض لها المشروعات الإنشائية الأخرى أهون شأنًا وأقل حدوثًا. صحيفة (الوطن) - مثلاً- نشرت في عددها الصادر في 21 سبتمبر 2015 تقريرًا حول توريد إحدى الشركات المنتجة للخرسانة خرسانة غير مطابقة للمواصفات تسبّبت في انهيار مبنيً لأحد المواطنين بمدينة الرياض. وغير ذلك نسمع ونقرأ عن حوادث متفرقة بسبب رداءة المواصفات أو عدم الالتزام بها عند التنفيذ في مشروعات كبيرة وصغيرة، حكومية وأهلية. هذه الحوادث الإنشائية ليست بالطبع هي القاعدة، بل الاستثناء، ولكن يكفي أنها تجلب الهلع والخسائر الفادحة. أن حجم الأعمال الإنشائية ضخم جدًا في المملكة، وما يُنفق عليها سنويًا - الحكومي منها والأهلي - يبلغ مئات المليارات. ويقدّر الأستاذ فهد الحمادي - رئيس لجنة المقاولين بغرفة الرياض - أن قطاع المقاولات تصل نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي 16 في المائة - أي حوالي ثلاثمائة وخمسين مليار ريال، وأنه يحتضن 25 في المائة من العمالة (صحيفة عكاظ 21 سبتمبر 2015). هذا الوزن الثقيل في ميزان الاقتصاد الوطني له اعتبارات ثقيلة أيضًا أخذت من اهتمام الدولة نصيبًا كبيرًا من خلال الأنظمة المالية والرقابية والفنية والتنظيمات المهنية. كما سخرت له الموارد المالية والبشرية (اعتمادات المشروعات في الميزانية وخارج الميزانية، صندوق التنمية العقارية، برامج الإسكان، استقدام العمالة...الخ). من خلال هذا الزخم الهائل من أعمال الإنشاء لا بد أن يتسرّب بعض (المطففين) الذين إذا كالوا الناس أو وزنوهم يخسرون (كما رأينا في مثال توريد الخرسانة، وغيرها من أمثلة غش الكميات أو توريد النوعيات الرديئة الرخيصة من المواد)، أو بعض ناقصي الخبرة والمعرفة (الذين لا يخلو منهم سوق العمالة السائبة، أو يحملون شهادات مزورة، أو غير الأكفاء من مقاولي الباطن)، أو بعض المقاولين المشغولين بمشروعات ضخمة أو متعدّدة فلا يحتاطون أو يهتمّون لعناصر السلامة بما يكفي لحماية العمّال والمارّة (كما رأينا في حادث سقوط رافعة الحرم، أو في غيرها من مشروعات البنية التحتية والمباني) أو بعض المخططين والمصمّمين الذين يخطئون في تقدير القدرة الاستيعابية أو المخاطر المحتملة (مثل حوادث السيول المشهورة في جدة والرياض وغيرهما) أو يضعون مواصفات سيئة،أو بعض المقاولين الذين يقدّمون عطاءات رخيصة ليفوزوا بالمنافسة وينفّذون المشروع بآليّات ومواد رديئة النوعية. ومهما كانت الأسباب والظروف التي تقف وراء الأخطاء والانحرافات في المشروعات الإنشائية فإن نتائجها باهظة الثمن - بشريًا وأمنيًا وماليًا. لذلك فإن إحكام الرقابة والتدقيق والمحاسبة بإتقان وشمولية - أي تطبيق آلية الحوكمة - أمر جوهري لتلافي تلك الأخطاء. الشمولية تضمن خضوع كلّ أجزاء المشروع من ألفه إلى يائه لآلية الحوكمة - من حين التخطيط له حتى تسلّمه، بما في ذلك تأخر موعد التسلّم، أو تعثر التنفيذ، وبما في ذلك أيضًا ما ينشأ من جراء قصور في الأنظمة أو عقبات بيروقراطية (على سبيل المثال يشار أحيانًا إلى أن مشروعات مؤسسات مثل أرامكو أو هيئة الجبيل وينبع أو نحوهما لا تعاني من الأخطاء والانحرافات بمثل ما تعانيه الجهات الأخرى، بسبب الكفاءة الفنية والإشرافية في إدارة المشروعات ووضع المواصفات ومراقبة الجودة في التنفيذ وعدم العمل وفق نظام المشتريات الحكومية، بل القيام بتأهيل المقاولين واختيار العطاء الأفضل فنيًا وليس الأقل سعرًا). إن الرقيّ بتنفيذ المشروعات وتخليصها من الانحرافات والأخطاء قضية متشعبة فنيًا وماليًا وإداريًا وأخلاقيًا. وذلك يتطلب وجود جهاز قويّ مدعّم بالكفاءات والخبرة والصلاحيات والمرونة الإدارية. وقد وافق مجلس الوزراء مؤخرًا على إنشاء المركز الوطني لإدارة المشروعات (صحيفة الاقتصادية في 12-12-1436) الذي يضع معايير إنشاء مكاتب لإدارة المشروعات في الجهات العامة التي تحتاج لذلك، وما تحتاج إليه من كوادر بشرية مؤهلة والتنسيق مع تلك المكاتب وتقييم أدائها، ووضع معايير التعاقد مع الشركات المتخصصة في إدارة المشروعات، وتطبيق الحوكمة الإدارية. ويخاطب المركز الجهات العامة عن طريق رئيس مجلس إدارته الذي هو وزير التخطيط والاقتصاد، ويخاطب القطاع الخاص عن طريق مديره العام. ويبدو من نظام هذا المركز أنه سيؤدي مهماته على النمط الحكومي المعتاد، وليس كهيئة مستقلة ذات شخصية اعتبارية وصلاحيات مالية وإدارية، إلا إذا رُؤي ذلك بعد ست سنوات من تأسيس هذا البرنامج. ولم يتضح من خبر (الاقتصادية) الدور الرقابي لهذا المركز خارج إطار (إدارة المشروعات)، وهل مهمة المركز - ومن ثمّ مكاتب إدارة المشروعات والشركات التي قد تتعاقد معها لإدارة مشروعات معينة- تبدأ من حين الترسية على مقاول التنفيذ، أم قبل ذلمن إعداد المواصفات وتأهيل المتنافسين وتحليل العطاءات.. إن الإدارات العامة للمشروعات الموجودة في الجهات العامة لديها إدارات للإشراف (أو للتنفيذ) فهل سيتم - مثلاً- تحويلها إلى إدارة مشروعات مع دعمها بمهندسين ذوي خبرة وكفاءة، أو الاكتفاء بتكليفها بالتعاقد مع شركات متخصصة في إدارة المشروعات وفق المعايير التي يضعها المركز والاستغناء عمّا يسمّى (مكاتب الإشراف) الخاصة؟ وهل سيقوم المركز بدور رقابي نشط إلى جانب تنظيم إدارة المشروعات، أم سيترك هذا الدور كلّية أو جزئيًا للجهات الرقابية المختصة (مختصة في كل شيء ما عدا المشروعات الإنشائية!)؟ لا يكفي أن يكون إنشاء المركز ردّ فعل على الشكوى من تعثر المشروعات - على الرغم من أهمية ذلك بلا شك - فهذا التعثر جانب من جوانب المشكلة والأهم منه هو المعالجة الوقائية (الرقابة الشاملة) التي من خلالها يمكن تلافي الأخطاء والانحرافات في المشروعات الإنشائية قبل وقوعها.