د.محمد الشويعر
استكمالاً واستعراضاً للمقالات السابقة والذكريات المتعلقة ببداية ما واجهه التعليم, وكيفية الحلول التي اتخذت تجاه تلك التعبيرات, وما أشرنا إليه من نماذج عن الصعوبات التي اعترضت مسيرة هذا النوع من التعليم..
وعن عدم توفر الكفاءات المؤهلة في النساء في ذلك الوقت، وضعف التحصيل العلمي عندهن، مما سبب صعوبات، ومما ذكرنا عن تعسر البديل نهائياً، وأن مستوى تعليم المرأة في بقية الدول العربية ضعيف جداً، وفيما يلي نواصل الحديث حول هذه النقطة، وكيفية الحلول التي تم اتخاذها لإعداد الكفاءات السعودية المؤهلة.
فقد اهتم القائمون على تعليم البنات في ذلك الوقت، بإعداد المعلمة السعودية، ووضعوا في حسبانهم توفيرها والعمل على سد الفراغ بالسعوديات قدر الإمكان، وذلك؛ لتسدّ فراغاً في المدارس من جانب.
ومن جانب آخر للاهتمام بتوفّر المعلمة السعودية التي تشعر بالاستقرار التعليمي؛ ولذا اتّخذت خطوات منها:
1-التّعيين في المرحلة الابتدائية بمن تحمل الشهادة الابتدائية، كما حصل في مكة وغيرها، وخاصّة مع أول فوج نال الابتدائية بمكة بل في المملكة.. حتى إن بعضهن قصر عمرها عن بلوغ (18) عاماً، وهي سنّ التعيين للموظفين والموظفات.. فأُخذ لهن استثناء في التعيين، بأقل من العمر المحدد في لوائح (ديوان الموظفين ذلك الوقت).
2-ثم جاءت المسارعة بفتح معاهد إعداد المعلمات للابتدائي - بدل المرحلة المتوسطة - ويقبل في هذه المعاهد من يحمل الشهادة الابتدائية.
وقد أعطيت الأولوية في الالتحاق بهذه المعاهد - التي مدتها ثلاث سنوات - للمعلمات التي على رأس العمل، وقد جرى تعيينهن بالشهادة الابتدائية؛ ليفرّغن للدراسة في هذه المعاهد برواتبهن، مع زيادة المكافأة المقررة لطالبات المعهد من غير الموظّفات. أمّا من كنّ معلمات فتحسب فترة الدراسة في خدمة العمل.
3-وبعد التخرج تعود للتدريس، بالترفيع لمرتبة أعلى، وبحصيلة علمية أكبر.
4-وبعد أن تكاثر العدد، ألغيت معاهد إعداد المعلمات، بعد الابتدائي؛ ليحلّ محلها القبول بعد المرحلة المتوسطة.. وتعطى الأولوية للمعلمات الحاصلات على شهادة إعداد المعلمات بعد الابتدائي، حتى يتطوّرن علمياً وتربوياً، بمكافأة طالبة، مع استمرار راتبها كمعلمة، وتحسب لها في الخدمة.
وهذا من باب التّشجيع والارتقاء بمستوى المعلمة، وعائد ذلك على التعليم ومصلحة المعلمة.
5-بعد التخرج تكون في الخيار، بين التعليم في المرحلة المتوسطة أو الابتدائية، حسب رأي المفتشات فيها ونتائجها وقدرتها:امتحاناً وتدريساً.
وترتب على وجود هذه المعاهد لإعداد المعلمات المتوسطة، إلغاء المعاهد لإعداد معلمات الابتدائي تدريجياً، أو نقلها من بلد إلى آخر لم يفتح فيه معاهد لإعداد المعلمات.
وكل منطقة تكتفي بمعلمات الابتدائي ينقل المعهد عنهم ويطوّر بمعهد لإعداد المعلمات المتوسطة.
6-ومع النتائج الطيبّة لذلك الإجراء، ومع اكتفاء المدارس الابتدائية والمتوسطة، بالمعلمات السعوديات حيث لمُسَ من المخطّطين لتعليم البنات، الذين كانوا يرون أن التربية فكر متطوّر، أهمية هذا الأمر.
فقد ترتب على هذا سرعة تطوّر المرأة السعودية، بحرصها واجتهادها، وبما يسّر لها، أن زادت حصيلتها العلمية والتربوية. فقد جاءت خطوة أكبر وأعلى:
7-وذلك بفتح كليات متوسطة بديلة للمعاهد، وعلى نفس الطريقة السابقة، حتى تحقّق للمرأة بطموحها مكانة الاكتفاء في مراحل التعليم العام، والارتقاء العلمي.
فاتخذت خطوات في القبول، وحسب المنهج في الكليات المتوسطة، لسد الحاجة بمعلمات المراحل الثانوية والمتوسطة، بعد الاكتفاء في المراحل الأدنى.
بل إن التطور العلمي، ارتقى بالمعلمة إلى أن تشارك في التدريس في المعاهد، ثم في الكليات المتوسطة، ثم في الكليات الجامعية التي تتابع فتحها.
وكل ذلك بتيسير الالتحاق بالمراحل الجامعية في الكليات المختلفة.. ثم المساهمة تدريجياً، بعد التوسع العلمي والرغبة منهن، وبإلحاح في الحصول على المؤهلات الأعلى.
8-ولما كانت المدن الكبيرة قد أخذت نصيبها، وبقي فائض من المتخرجات، كانت المحطّات التالية، هي التي روعي فيها التحسين بالكيفية؛ لضمان النتائج المرجوة: علمياً وتربوياً.. ولتحديد مصلحة تعود على المواطنة السعودية، والبلد ومستوى التعليم فيه:
-حدّدت التّخصصات الدراسية في الكليات التي عُمّمتْ في أنحاء المملكة: متوسطة وكليات تربوية ومعاهد خدمة اجتماعية، ثم كليات الخدمة الاجتماعية، فكان التّعيين لمراحل التّعليم في أنحاء المملكة، حسب التخصص، حيث جاء دور التشبع والاختيار، بعد انتهاء دور الضرورة.
-ثم طلب من الجهات المختصّة الموافقة على مكافآت تشجيعيّة للمناطق النائية، حتى تحظى القرى بفائض المدن، ومن ثمّ الارتفاع بالمستوى التعليمي، بقدر الإمكان في القرى والمناطق النائية.
فيكاد عمر التعليم النّسوي الذي بدأ في عام 1380هـ، من خانة الصفر في الرسم البياني، في المملكة بأسرها وبمعلمة الضرورة، وبأدنى الشهادات الدراسية، أو المقدرة على المساهمة.
وفي فترة (40) عاماً نرى تعليم المرأة في المملكة، قد قطع مسافات كبيرة، وصلت فيه المرأة إلى حمل الشهادات العليا بجدارة، وتسلّمت إدارة وقيادة جامعة الرياض للبنات، مع المراحل الجامعية المتفرّعة في مدن المملكة المتكاثرة.. فقطعت مسافات كبيرة، لا تقل عن الجهد الذي بذل في تعليم البنين خلال (80) عاماً. وبنفقات أقل، وجهد مركز أقصر.
ويسعدنا في هذه الوقفة ونحن مشرفون على توديع هذه الحلقات أن نعطر المجلس بصورتين من الصور الناصعة للحرص الشديد الذي يتسم به الشيخ ناصر رحمه الله، والعاملون معه في هذا المجال، وما بذلوه من جهود من أجل الجمع بين الحسنيين: التعليم، والحفاظ على الأعراض.
الصورة الأولى: فمن حرص الشيخ ناصر والعاملين معه، واهتمامهم، أنه اتّخذ خطوات رقابية جيدة بنفسه رحمه الله، فكان بعد صلاة الفجر يتلثّم ويركب السيارة مع سائقه؛ ليدور على المدارس كل يوم في جهة، لمراقبة دخول المعلمات والطالبات، وليتصدّى للشباب الذين يعترضونهنّ، أو يحاولون المعاكسة، ماشياً ومبتعداً عن سيارته بسائقها.. ينظر في مراقبة دقيقة. وطالما تصادم مع بعضهم، ولكنّ الله معطيه نشاطاً وحيوية.
فإذا اشتبك مع بعضهم، التمّ الناس وأولياء الأمور والمعلمات حوله، ولا يعرفون أنه هو: الرئيس العام لتعليم البنات، ولكن من باب الحماسة، والمشاركة في الذبّ عن كرامة البنات.
وكان ينصح الشباب برفق ولا يحصل الاشتباك إلاّ مع المعاند.. أو سيئ الخلق.
ولذا كانت له هيبة وسمعة، فبعضهم يظنونه من رجال الهيئة، وبعضهم يتوقعونه من أولياء الأمور، وبعضهم يراه من الغيورين.
ومع ذلك لم يعرف عنه أنه رفع الأمر للجهات العليا، والمختصة إلاّ عندما كثر تعرض الشباب للطالبات في مكة وجدة خاصّة.. وفي غيرهما عامّة.
الصورة الثانية: وأذكر من الأمور التي تلفت النظر في تعليم البنات: أن شخصاً في بريدة كان عنده (22) بنتاً، ولم يدخلهن المدارس متأثراً بالدعاية التي حصلت في بريدة عند بدء فتح المدارس.
وبعد تصميم الملك فيصل - رحمه الله - على فتح المدارس، وأن الذي لا يرغب ليس مجبراً، كان هذا الرجل من ضمن المتخلفين، لكن الناس اندفعوا، وأسرعوا في تعليم بناتهم، وزاد عدد المدارس في بريدة وغيرها، والناس يذهبون لهذا الرجل لإقناعه، ويبيّنون له فائدة تعليم البنات.
ولما كان بيته في وسط البلد، وفي منطقة السوق، فكان تشدّده أكثر، لكن مع الإكثار عليه، اقتنع وأعطى شرطاً، هو: أن يقف الأتوبيس لنقلهن للمدرسة أمام بيته، وكذا في العودة، وإلاّ لن أوافق فأعطي وعداً بذلك، لكن الأتوبيسات كبيرة لا تستطيع الوصول لبيته.
وحتى تحلّ المشكلة، وافقت الرئاسة من باب تأليف القلوب على شراء أتوبيس صغير حمولة (24) راكباً فصار يصل لبيته، صباحاً عند الذهاب، وظهراً عند العودة من المدرسة.. فتحقق بذلك مصلحة ذات أثر عند أهل البلد.
والمحطات في تعليم البنات والمواقف لبعض العاملين والمراجعين الأولِ كثيرة، وقد عَلِقَ بالذاكرة منها شيء، وعند الموظفين القدامى بتعليم البنات ذكريات ومواقف أكثر ممّا لديّ، وبعضها لا يُرغب في نشره، إلاّ أنني طُولبت بزمن محدود، وذكريات تعيد للأذهان بعض المواقف، والمحطات التي اكتنفت بدايات تعليم المرأة في بلادنا.
هذه من الذاكرة، وليست من قصص الخيال، فقد عاصرتها بحلاوتها ومرها، بل كانت أحلى أيام الحياة، حياة البساطة، وعدم التكلف، ومراعاة الغير حيث التعاون والجد والاجتهاد وتبادل الآراء النافعة.
ومن هذا المنطلق فأشكر أخي الكريم الذي زارني في مكتبي وطلب مني أن أسرد مذكراتي في التعليم النسوي، حيث لم يخطر على بالي أن أدون هذه المرحلة التي تعد من أهم مراحل حياتي العملية.
ختاماً، هذا غيض من فيض، ولا شك أنني لم أفِ الموضوع حقه، ولكن كما يقال.. يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
أدام الله عزنا تحت راية التوحيد، وتحت ظل قيادتنا الحكيمة، ونسأل الله أن يعيننا على طاعته، وحسن عبادته، اللهم آمين.