د.ثريا العريض
سؤال وصلني من إعلامي قبل أكثر من عام: هل القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟ أقول نعم وبالتأكيد.. خاصة وبعض ما نقرأ الآن يقع مباشرة تحت تصنيف التأليب.
تذكرت سؤاله اليوم وأنا أتابع ما يدور في الساحة الإعلامية عن بيان وقعه 52 اسما يحضون على الجهاد في سوريا. بيان قرأه ونشره متابعو تويتر مستحضرين ذهنيا الاستنفار للجهاد ضد الشيوعيين في أفغانستان, مرتبطا بالدخول الروسي عسكرياً إلى سوريا مؤخراً... ثم استنفر للدفاع عن البيان إعلاميا, وبضراوة, بعض من يعتبرون أنفسهم مثقفين وقادة رأي. ثم اتضح أنه بيان قديم منذ 2013 لا علاقة له بالحضور الروسي الراهن.
في الواتسآب تزامن نشر البيان بتسجيل لحوار طفل في الـ12 مع أمه يخبرها محتارا عن مجهولين يحاورونه على الإنترنت من مواقع مشبوهة تعلم كيف تصنع المتفجرات.. وتحض على قتل الوالدين والأقارب الذين يصنفهم «كفار» حسب معايير الموقع المدمر!
لم يمر مثل هذا بتجربتي في طفولة خلت من الأجهزة الإلكترونية, وإن لم تخل من التحريض المشبوه من مصادر أخرى.
أعشق القراءة منذ صغري.. وبين سن 5 سنوات وسن 18 سنة لم يمر علي يوم لم أنه فيه كتابا أو كتابين. منزلنا كان مليئا بالكتب حيث مكتبة والدي تتمدد في كل أركانه. فكأنما نشأت في مكتبة عامة تحوي كتبا بلغات متعددة حول أي موضوع تشاء علمي أو أدبي أو ديني. في ظلالها الآمنة استمتعت بالميثيولوجيا العالمية التي فتحت خيالي على كيفية استخدم الإنسان الخيال والفكر لتفسير الظواهر الطبيعية والعلمية. لاحقا تابعت قراءة الكثير من الشعر والقصص والروايات العالمية والأطروحات العلمية لكبار المؤلفين. كل كتاب قرأته ترك في تأثيرا إما إيجابيا أو سلبيا.
وبعض ما حاول جيران الصبا وزميلات الدراسة إقناعي بقراءته مغلفا بغلاف يخفي محتواه, لم أستسغه ولم أكمله بعد الصفحات الأولى.
كتابان تركا في تأثيرا طويل المدى: رواية «الجبل المسحور» لتوماس مان عن حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية, وكتاب «تاريخ الحضارة» لويل ديورانت.
رواية «الجبل المسحور» ترسم حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة, بصورة حوارات فلسفية وسياسية تدور بين نزلاء مصحة للدرن معزولة على قمة جبل بينهم مثقفون ومؤدلجون وبسطاء من الجنسين يجادلون من منطلقات ومفاهيم متناقضة.
وكتاب «تاريخ الحضارة» لويل ديورانت وضح لي أن تطور قدرات ومنجزات البشر مسيرة مستمرة تتسارع وقد تتوقف أو تتراجع الى مرحلة التوحش والدموية.. ولكنها تظل تتراكم.
الكتابان تركا في تأثيراً فكرياً متعمقاً, علمني أن وجهات النظر تختلف وقد تتناقض رغم تمحورها حول موضوع واحد متزامنة أو في أزمنة مختلفة.
وأن الاطلاع عليها بحيادية يوسع آفاق فهم الفرد لأي ظاهرة تتعلق بالفكر والفعل البشري الفردي والمجتمعي.
أحس الآن أننا نمر عالميا ومحليا بمرحلة مشابهة تتصاعد فيها الدموية والتوحش, وتتصارع فيها المرئيات على شفير حرب عالمية.
أعود للسؤال: هل القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟
نعم بالتأكيد؛ مع توضيح أن مصادر المعلومة وموجهات الرأي لم تعد محصورة في الكتب الجادة كالسابق, بل أضحت في عصر ساحات ووسائل التواصل الإلكترونية مفتوحة على حوارات تحمل العلم والغثاء والتلفيق المقصود.
والتغير الناتج قد يأتي إيجابيا أو سلبيا حسب مصادره كما حدث في ثورات الربيع العربي, وإعلانات ودعايات التوحش الداعشي.
يوميا أقرأ ما يدور في تويتر وكلي توجس أحاول التهرب منه!
لا أريد أن أتشاءم بالمزيد من المتدعشنين.. ولكن قلبي طفل وجل يرفض أن يهدأ, ولا يطيق المزيد من الكراهية والعنف والدموية وتنفيذ مخططات الشر استجابة لتأليب المؤججين الذين ما زالوا يدعون إلى الكراهية علانية وفي السر؛ يدسون السم مقروءا ومرئيا ومستلا من صفحات قديمة وينشر للعموم فيتقبله كل من يتقبل أن يلعق ما يقدم له باسم الدين. قل لي ماذا يجذبهم مما يقرأون أقل لك ما سيحاولون أن يفعلوا بعدها. حمانا الله.