نجيب الخنيزي
الثقافة العربية السائدة بشكل عام هي أسيرة لنمطين من الثقافة، وإن بدا أنهما متعارضان من حيث المنطلقات إلا أنهما يلتقيان عند جذر واحد هو تعطيل وتجميد العقلانية والإبداع والمعرفة والفكر، وشل القدرة على التغير والتجاوز والتجديد.
فالثقافة المستمدة عناصرها من الثبات أو إعادة إنتاج ثقافة ماضوية مطبوعة بطابع التقليد والنقل والتلقين، هي ثقافة ترى النموذج في إعادة استحضار الماضي التليد في الحاضر البائس، بغض النظر عن الفاصلة الزمنية الممتدة، وظروف هذا الحاضر وتعقيداته ومتغيراته وتناقضاته والعوامل التي تحكم تطوره، وهنالك الثقافة التي تستمد عناصرها من المراكز الثقافية العالمية (الغربية) وسعت إلى فرض وإسقاط المفاهيم والنظريات الغربية (بغض النظر عن مدى علميتها وصحتها) بصورة تعسفية ودون أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف والمسار المختلف لتطور البلدان والمجتمعات العربية، وبالتالي ظلت أسيرة العزلة والاغتراب وهامشية التأثير في الواقع العربي الذي يسوده التخلف والأمية والفقر والتبعية والفساد والاستبداد.
في الحالتين تسود ثقافة التقليد والنقل والمحاكاة، ثقافة إعادة إنتاج التخلف والتبعية، وتحويل التراث الثقافي العربي إلى مجرد (فلكلور) ثقافي ينحصر في المناسبات.
الخطاب الثقافي لا يقنع بالسؤال عن ما كان فقط وإلا اقتصر على نقل ما كان في الماضي، فالتطلع دائما هو لما يجب أن يكون، ووصل الحي بالحي وليس إحياء الميت لإماتة الحي فينا.
لا بديل عن نظرة نقدية وعلمية وموضوعية لمجمل تراثنا الثقافي والحضاري، فليس الماضي مقدساً بكليته، وليس الحاضر كافراً برمته أيضا.
باستثناء العقيدة والأصول والشريعة الإسلامية ليس هنالك شيء مقدس ومتعال وأبدي وخالد، وهو ما يتطلب التفريق بين جوهر وأصول الدين السماوي وبين الفكر الديني (الأرضي) الذي هو اجتهاد بشري قابل للصواب والخطأ والتجاوز.
علينا استعادة رحابة الإسلام وانفتاحه في عصوره المتألقة، حيث تعدد القراءات والاجتهادات وتنوع المذاهب والتفسيرات والفتاوى الفقهية، والتفاعل مع ثقافات وحضارات وعلوم عصرهم والعصور التي سبقتهم كالحضارة الإغريقية والفارسية والرومانية، من خلال النقل والترجمة، ثم عبر الإضافة والتجديد والابتكار والتجاوز، والتي تمثلت في الحضارة العربية الإسلامية التي وصل تأثيرها معظم أرجاء العالم القديم.
هذا التفاعل والتلاقح من منطلق الندية الحضارية والخصوصية الثقافية استمر، وأثمر ذلك المجد الحضاري، قبل أن تسود عصور الانحطاط والظلام والجهل، وهيمنة ثقافة القمع والاستبداد، هنالك حاجة ملحة إلى إحداث قطيعة معرفية مع تلك الجوانب والمفاهيم والأفكار التي لم تعد توائم وتستجيب (بل تعيق) مع متطلبات وتحديات الحاضر والمستقبل.
غير أنه في المقابل لا بد من امتلاك نظرة نقدية وعلمية لمجمل النظريات والأفكار والثقافات والمناهج السائدة في المراكز الثقافية (الغربية) العالمية وإحداث قطيعة معرفية مع النظرة الاستشراقية وعملية النقل الحرفي والترجمة لنظريات ومناهج وممارسات الغرب بصورة فوقية وتعسفية قبل أن يجري اختبارها على أرض الواقع العملي.
الحوار والتفاعل بين الحضارات والثقافات المختلفة يحتاج إلى ندية وتكافؤ حضاري ولن يتحقق ذلك دون فصم علاقة التبعية البنيوية الشاملة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المعتمدة والمتمحورة على الذات في المقام الأول، وهو ما استطاعت تجارب تنموية ناجحة من تحقيقه كالتجربة، اليابانية والتجربة الصينية.
وفي هذا الإطار من الضروري الإشارة إلى زيف اصطناع المتعارضات والانقسامات والمقابلات الثنائية العقيمة على غرار القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، والوافد والمحلي، الوطني والقومي, الأنا والآخر.
فهي مواجهات ملتبسة وخاسرة من شأنها إحداث مزيد من البلبلة والتشويش والإعاقات ولن تعمق رؤيتنا لجذر الأزمة الطاحنة والشاملة، التي يعيشها العالم العربي والتي تعود في جانب منها إلى الفشل الذريع في التوليف والتركيب الإبداعي للعناصر المكونة للثقافة العربية المعاصرة بإرثها وتراثها وإنجازاتها وميراث وإنجازات الثقافة والحضارة الإنسانية ككل.
ومن الواضح أن ذلك يرتبط بالعمق بالمعضلات الحقيقية التي تواجهها الدولة العربية «الحديثةا»، من جراء استفحال وتعمق أزمتها البنيوية الشاملة على جميع الأصعدة والمستويات، والتي تنذر بتفككها وتذررها وفقا للهويات الفرعية القاتلة.
كونية الثقافة التي هي منجز إنساني مشترك لا يمكن تجاهله غير أنه يتعين تلمس الجوانب المتناقضة لهذه العملية الموضوعية التي تتسم بميزتين أساسيتين هما عملية التركيب والهيمنة الثقافية التي تمارسها دول المركز «الشمال» من جهة وعملية التفكيك والتهميش الثقافي التي تعاني منها دول الأطراف (الجنوب) ومن بينها بلداننا العربية من جهة أخرى.