د. حسن بن فهد الهويمل
الذي يتعقب الأحداث العالمية في مشرقنا العربي، يروعه ما يرى، وما يسمع من فتن تزهق الأرواح، وتدمر المنشآت، وتخوف الآمنين، وتشرد المواطنين، وتفرق الشمل، وتطيل أمد التيه، والتشرذم. وتنشئ عداوات، لم تكن معروفة من قبل.
لقد كانت الشعوب العربية داخل كياناتها القطرية، تعيش حالة من الوفاق النسبي. طوائف، وأعراق، يجاور بعضها بعضا، ويصاهر بعضها بعضا. يتداولون التجارة فيما بينهم، ويمارسون الزراعة، لا يُحِسُّون بخوف، ولا يتوقعون فرقة.
وفيما هم كذلك، يعمرون، ويحرثون، ويصنعون، ويتعلمون، ويحفظ بعضهم ساقة بعض، ويرود بعضهم لبعض. إذ بالقوى الخارجية المتصارعة، لتحقيق مصالحها، وبسط هيمنتها، تَدُعُّهم في أتون الفتن دعَّا، مستنزفة طاقاتهم التي كانت من قبل موجهة للبناء، والتنميةِ.
لقد وُجِّهت تلك القوى بفعل التآمر الذكي، واللعب المحكمة، لتدمير المثمنات، ونَسْفِ ما أنجز من بنيةٍ، وإعمار. وتفريق ما أنجز من وحدة الكلمة، والصف، والهدف، وتحويل الأخُوَّة إلى عداوة، والسلم إلى فرقة، وتناحر. وحسن الظن إلى شك، وارتياب.
والمشكلة أن هذه الدسائس المدمرة، لم تحقق أهدافها. فمصالح القُوَى الكبرى، لا يمكن أن تكون في ظل الفوضى الهدامة.
ودعوى [الفوضى الخَلَّاقة] التي نسلت من دهاليز المخابرات تَغْطيةٌ غبيةٌ للفشل الذريع، الذي وقعت فيه [أمريكا] حين لم تحسن إدارة العالم في ظل القطب الواحد.
ما أقوله عن صراع القوى، وصدام المصالح، لا يُقْصَد منه تبرئة الدول العربية، وقادتها الانقلابيين، الذين انساقوا وراء اللعب السياسية. فالدولُ الانقلابية شريكٌ غبيٌ، مَكَّن لهذه القوى. وأتاح لها فرصة العبث بالمثمنات.
والخسارة الكبرى ليست في الهدم، والقتل، ولكنها في خلق عداوات وهمية بين المكونات السكانية .
لقد عاش [السنةُ ] و[الشيعةُ ] و[الاكرادُ ] و[الأحزابُ ]، و[الأعراقُ] متعاذرين، متعايشين، متغلبين على الأضغان، والحزازات.
وكانت خلافات الطوائف، والمذاهب في [الأصول]، و[الفروع] مطمورة في كتب التراث، لا يتداولها إلا العلماء القادرون على قبول الاختلاف، وحسن إدارته.
وماكان أحد من الشعوب العربية يظن أن الولاء، والبراء مرتبط بالانتماء لطائفة، أو حزب، أو عرق. فالوطن هو ملتقى المشاعر، وهو السفينة المستهم عليها. فلا أحد يجرؤ على خرقها.
أما اليوم فكل منتم إلى طائفةٍ، أو حزبٍ، أو عرقٍ يكيد لمواطنه الذي يختلف معه في الانتماء.
أنا لا أدعو إلى التخلي عن مهمة الدعوة إلى الله، على هدي من الكتاب، وصحيح السنة. ولا أحبذ التخلي عن الاعتزاز بالمعتقد. كما لا أستن طريقا، لم يكن عَلَيْه سلفُنا الصالح. فمثل ذلك من المزايدات المكشوفة، التي لا يمكن القبول بها.
دعوتي تتمثل في ضمان العزة، والكرامة، والحرية، والأمن لكل من ولد على تراب الوطن، وأقلته أرضه، وأظلته سماؤه. فَحَقُّ المواطنة خَطٌّ أحمر، لا يجوز تخطيه.
دعوتي أن نُقَوِّي لُحْمَتنا، وأن يكون ولاؤنا للوطن بكل مشمولاته :الحسية والمعنوية، الدينية، والدنيوية، ولأرضنا، وما حملته من مقدسات، وماسطرته من تاريخ عربي إسلامي مجيد.
وما من عاقل رشيد ينكر الحب الجِبِلِّي الذي لا يتعارض مع الحب العقدي.
دعوتي ألاَّ ينصاع ولاؤنا لمن يُلَوِّح بالطائفية، ويتخذها قناعاً لمآربه، ونواياه المريبة.
وطننا الذي خُلقنا من تربته، وأكلنا من ثمار أرضه، وأجسادنا سوف تتحلل في تربته، حتى نكون جزءاً من أديمه على حد :-
[ خَفِّفِ الوطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيْمَ الأَرضِ إِلَّا مِنْ هَذِه الأَجْسَادِ]
وطننا: عقيدة، وقيادة، وأرضاً. ومن نسي هذه المحددات تحت أي مسمى، فقد أذن بفتنة عمياء، تُخِل بالأمن، وتفرق الكلمة، وتخلق العداوات.
المواطنة الإقليمية، لا تتعارض مع الوحدة الإسلامية، ولا مع النزوع الأممي.
ومتى تَصَدَّعت لبنةُ الوطن، تعذرت السلامة للكيان الإسلامي الأشمل.
أعداء الأمة الإسلامية يريدون إنفاذ سمومهم من خلال ثغرات الأممية، والطائفية، والعرقية، والإقليمية. لأنها الورقاتُ الخَلَّابةُ، التي يُلَوِّحُ بها الأعداء.
والدهماء لا تملك الفرز، ولا تستطيع التقويم، ولا تقدر على التفريق بين كلمة الحق الخالصة، والأخرى الزائفة.
لقد غُرِّر بَشَبَابٍ سُذَّج، لا يملكون تجربةً، ولا يتوفرون على علم. لهم قلوب بيضاء نَقِيَّة، ونظراتٌ مثاليةٌ، وحماسٌ غَيْرُ محكوم بأي ضابط، وأرض بوار يحييها السابق اليها.
هؤلاء الأبرياء زُجَّ بهم في أتون الفتن، وسُلطوا على أهلهم، وبلادهم، وشُوِّهَتْ بهم سمعة دينهم.
الواقع السياسي العالمي مُعَقدَّ، ومخادعٌ، وسريعُ الإيقاع، والبسطاءُ تتشابه عليهم الأمور، ولا يستطيعون متابعة الأحداث.
ودول الاستكبار تمارس المراوحة، والجزر، والمد. تقول، مالا تفعل، وقد لا تقول، وتفعل. تراها ساعة تركض في اتجاه، ثم تفاجئك بمعاكسته. تكون معك حين تُقْبل فلولك على السقوط، ومع عدوك حين يبلغ مشارف الانهيار، حتى تقضي على الجميع. وأمام هذه المخادعة، والمراوغة، يصاب المتابع بالذهول، وخيبة الأمل.
المتفق عليه أن المبادئ ثابتة، والأحداث السياسية متقلبة، ومن لم يُرَوِّضْ نفسه على التناقض، يفوته الركب المخب.
بالأمس كان الموقف من جرائم النظام السوري واضحاً، وكان الحل يكمن في خروج [الأسد]، وزمرته من القضية. واليوم أصبح [الأسد] جزءاً من الحل. [إيران] تلعن في العلن من تسبح بحمده في السر، وأذنابها يعرفون الملَعَّن والمُسَبَّحَ بحمده، فيلوِّحون باللعن، ويتكتمون على عمالتها المذلة.
الدول الكبرى في تعاملاتها، تتخذ من القضايا عِمْلةً للمقايضة مع شركائها في اللعب، فإذا تنازلت دولة عن قضية لحساب أخرى، ظفرت بقضية مماثلة، ووقود الفتن شعوب مغلوبة على أمرها، حتَّى لكأنها [بنو تيم] الذين يصفهم الشاعر بقوله:-
[وَيُقْضَى الأَمْرُ حِين تَغِيْبُ تَيمٌ: ولا يُسْتَأمَرُون، وَهُم شُهودُ]
ووقود الفتن دُمى على مسرح العرائس، تحركها أصابع خفية.
قد لا يكون الهدف من التحريش مُجَرَّدَ الكسب، وإنما يكون في بعض الأحوال للتدمير، حفظاً لتوازن القوى، وحماية للحلفاء [الاستراتيجيين]. وإذا أريد لقضية أن تحسم أجريت الرياح بما يشتهي المُتَحَكِّم.
والدهماء تصفق للمنتصر. وماتدري أنه نصر ظاهره الرحمة، وباطنه من قِبَلِهِ العذاب. فهو محسوب بكل دقة. وكم هو الفرق بين إدارة الأزمة، وحَلَّها.
لقد تآكلت الأمة العربية، وأُفْني شبابها، وهدمت شوامخها. وأحرقت أرضها. وأهلك فيها الحرث، والنسل. وقامت العداوات بين فئاتها، وطوائفها.
ودول الاستكبار تلبس من الأقنعة، وتخلع، بحيث لا تدري الضحية عمن وراء مآسيها.
[ إيران ] الدولة الأكثر حضوراً في كافة المشاكل. أفسدت [العراق]، ودمرت [سوريا]، وشتَّتَتْ شمل [لبنان]، وفرقت كلمة [اليمن]. ووضعت [الكويت] و[ البحرين] على شفير الفتن.
ولما تزل الشريك الأكثر حضوراً، والأجرأ على النهوض بأي مهمة دنيئة، تُوْكل إليها.
وهي لكي تمتص الاحتقان، وتغطي السوءات تلعن أمريكا، وتتوعد إسرائيل، وتبكي على شيعة العرب، وتَدَّعي أنها مع المستضعفين.وتطالب بتدويل الحرمين، وتبارك لإسرائيل تلويث المقدسات، ولما تزل البلاهة المعتقة تنخر في وعي الأمة.
والعالم العديم العدل، والإنسانية يوهمُ الأمة العربية أنه ضد الأطماع المجوسية، ولكنه لا يستطيع المواجهة، مدعيا زوراً، وبهتاناً أن [إيران] قوية، وأنها تهدد مصالحة، وهو بهذا يستدرجها من حيث لا تعلم.
والحق أن [ إيران ] نِمْرٌ من ورق، لا تمارس وحشيتها إلا بحبل من الدول الكبرى المتآمرة.
لو خُلِّي بين [العرب]، و[إيران] لَحُسِم الأمرُ لصالح الحق، والشرعية. لقد رَكَّعَتْه [العراق ] يوم أن كانت رياحُ الدول المستكبرة معه.
الأمة العربية مغلوبة مخدوعة. فالإعلام المأجور يُخَوِّفُها، ويضطرها إلى إعطاء الدنية في شأنها كله.
دول الخليج، وبعض دول المنطقة، يودون إشاعة السلم، والسلام، وقطع دابر التوسع الاقليمي، وتصدير الثورة. وهم حين يضعون يدهم مع من يشاطرهم الْهَمِّ، يحققون أفضل النتائج .
لقد وضعت [المملكة العربية السعودية] يدها مع [العراق] فحقق النصر. وحين امتدت يَدُهُ المرتعشة إلى اليد المجوسية الملوثة، تفرقت كلمته، ووهن عزمه، ووجدت فيه المنظمات الإرهابية فضاء واسعاً للتخريب، والقتل، والتشريد.
ولك أن تقول مثل ذلك عن [سوريا] و[لبنان] و[اليمن].
إن على الأمة العربية أن تتدارك نفسها قبل أن تبحث عن [عطر منشم]، وأن تعرف عدوها من صديقها.
وعلى الطوائف والأحزاب العربية أن تدرك أنها بدون الوحدة العربية، ستفقد كل مكتسباتها. وأن التدخل الإيراني مُؤْذن بحروب أهلية دامية.
العنصر الفارسي يسعى جهده لتوهين العنصر العربي بكل طوائفة. وتَقَنُّعه بالتشيع لعبة مخادعة، جَرَّت قدم السذج، والمغفلين من الشيعة العرب.
بغداد الرشيد، وقلعة الصمود، وهن عظمها، واشتعلت فتنها، وفقدت كل مكتسباتها. والحكم الطائفي المسنود من المجوس، سيأتي على الرطب، واليابس.
فـ[السنة ] العرب لن يُسَلِّموا للطائفية المجوسية. وانهيار العراق: سنة، وشيعة، وأكراداً سيجعل الطريق ممهداً لمزيد من التفكيك، والتدمير للعالم العربي.
[العراق] هو بوابتنا الشرقية، ولن يحقق الصمود، والتحدي إلا بتقوية اللحمة الوطنية من كل مكوناته السكانية.
الدول تظل قوية، ومهيبة الجانب، متى استطاعت جبهتُها الداخلية الحيلولةَ دون نفاذ الكيد، والتآمر.
إن رهانات الأعداء في تفكيك البنية السكانية. فَلْيتَنَبهَّ مَنْ هُمْ في اللهب، ولمَّا يحترقوا إلى هذه الثنيات، وليَحُولوا دون اختراق الأعداء.
[عراق] القومية، والأنفة، والإباء أصبح أسداً جريحاً في قفص المجوس، وأصبح المتعفنون من الأذناب، أمثال [نوري المالكي] يَمُوْؤُن كالقطط بما يُمْلَى عليهم من أسيادهم.
تلك بعض صراعات القوى، ويبقى عالمنا كالمتردية، والنطيحة، وما أكلت الكلاب الضواري.