د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لو تساءلنا: هل عندنا نظام صحي أم خدمات صحية؟ سيكون الجواب:
عندنا بالتأكيد خدمات صحية في سائر أنحاء البلاد؛ بعضها متطور جدّاً، وبعضها يحتاج إلى تطوير. بعضها- وهو أكثرها - لا تزال تقدّمه وزارة الصحة،
وبعض آخر تقدمه الخدمات الطبية بوزارات الدفاع والحرس الوطني والداخلية والتعليم (الصحة المدرسية والمستشفيات الجامعية والكليات الصحية) ووحدات صحية أخرى متفرقة. وبعض الآخر- ربما الثلث - يقدمه القطاع الخاص، وبشكل محدود الجمعيات الصحية الخيرية (وممارسو الطب البديل والطب الشعبي لمن يريده). يساند هذه الخدمات الهلال الأحمر لنقل الحالات الإسعافية، والهيئات الطبية لتقرير العلاج في مستشفيات المملكة المرجعية أو بالخارج، وهيئة الغذاء والدواء لضمان مأمونية الدواء وكفاءة الأجهزة الطبية، والهيئة السعودية للتخصصات الصحية للتصنيف والترخيص المهني وبرامج التخصص، ومجلس الضمان الصحي التعاوني لإقرار وتنظيم تطبيق قواعد التأمين الصحي. ويكمّل النواحي المتعلقة بصحة الفرد والمجتمع وزارات الشؤون البلدية والقروية (للصحة العامة) والزراعة (للصحة الحيوانية) والشؤون الاجتماعية (لتأهيل المعاقين والحماية الاجتماعية) والداخلية مرة أخرى (لأمور السلامة المرورية، ومكافحة المخدرات). هذا التعدّد والتنوّع في الجهات التى تقدم الخدمات الصحية المباشرة أوالمساندة أمر إيجابي من حيث اتساع دائرة الخدمة الصحية للفرد والمجتمع وتكامل عناصرها وتوزيع المهام والأعباء والمشاركة في تحمّل مسؤولية القيام بها. لكن الأمر الأكثر إيجابية هو أن تتلاقى الجهات الواقعة على محيط هذه الدائرة في نقطة المركز - أي في قلب الدائرة - مثلما نقول: على قلب رجل واحد، أي متجهة نحو هدف واحد، هو خدمة الإنسان المحتاج للحفاظ على صحته أو استعادتها. ينبغي أن تعمل الجهات والوحدات الصحية كأجزاء في جسم واحد، لا تعارض بينها ولا ازدواجية ولا تكرار، بل تكامل في المهام وتنسيق في الأداء. إن هذا يتطلب تنظيم العلاقة بين الجهات والوحدات الصحية في إطار قانوني. فانعدام هذا التنظيم يترتب عليه شيء من فوضى الاستخدام من قِبَل المنتفعين بالخدمة الصحية - مرضى وأصحاء على السواء - بما يشبه فوضى المرور عندما ينعدم الانضباط والتزام الاتجاه الصحيح في مسارات متعدّدة ومتقاطعة. كما أنه يترتب على ذلك أيضاً إهدار في الموارد المالية والبشرية والخدمية. نجد ذلك -على سبيل المثال- في اختلاف متطلبات التشغيل بين المركز الصحي الحكومي والمجمع الطبي الخاص مع تماثل المهام، أو في تراكم عدد المراجعين المتردّدين على المستشفيات لعدم وجود إحالة راجعة بين المستشفى وطبيب المريض الأول، أو في تكرارراجعة المريض لمرافق صحية تابعة لجهات مختلفة، أو في جمع بعض الأطباء بين العمل في القطاع الحكومي وفى القطاع الخاص (بطريقة مُجازة أو غير مُجازة رسمياً - وعلى حساب العمل الأصلي!)، أو تكدس الكفاءات في جهة وندرتها في جهة أخرى، أوشمول شرائح اجتماعية بالتأمين واضطرار أخرى للدفع المباشر، أو وصول فئة إلى عيادة الاستشاري بالواسطة وبسهولة وأخرى بالإحالة وموعد يطول، أو في استطاعة القطاع الحكومي التعاقد مع المؤسسات الطبية الخاصة للتحويل إليها وعدم قبول تحويلات القطاع الخاص... الخ. لذا فإن تنظيم العلاقة بين الوحدات والجهات الصحية ليس قضية تجميلية، بل هو قضية جوهرية لازمة لتحقيق فعالية الخدمة وكفاءة الأداء. تنظيم العلاقة لا يقصد به تخلّي الجهات الصحية المستقلّة عن استقلاليتها إدارياً ولا عن طبيعة عملها الذي أنشئت من أجله، ولكن المراد هو تحديد أهداف وطنية عامة ووضع أسس لتحديد الاحتياج العام للخدمات الصحية ومستوياتها وضمان الحصول عليها والعدالة في توزيعها وتنظيم الاختصاصات ومن ثَمّ المسؤوليات وتوضيح علاقات العمل بينها وأسلوب تكامل الخدمات والاستفادة المتبادلة في الموارد المتاحة فيما بين الوحدات والقطاعات الصحية بحيث يمكن تجنّب الإهدار والازدواجية في استخدامها ووضع الأحكام والآليات العامة لأساليب الإدارة اللامركزية المرنة وأساليب التمويل بما يضمن توفير الخدمة وضبط الإنفاق وتحديد جهات الرقابة والمساءلة. بلا شك ينبغي أن يوضع كل ذلك في إطار نظامي ملزم، ممّا يتطلب تعديلاً في (النظام الصحي) الصادر عام 1423هـ الذي كان مختصراً في محتوى مواده، وفصّل إلى حدٍّ ما في اختصاصات وزارة الصحة، ولم يتطرق للوحدات والجهات الصحية الأخرى والعلاقات بينها، تاركاً ذلك لمجلس الخدمات الصحية (يسمّى الآن: المجلس الصحي السعودي). وقد مضى أحد عشر عاماً على إنشاء المجلس، اكتسب في أثنائها خبرة ومعرفة واسعة بواقع الخدمات الصحية في المملكة ومجال التنسيق والتكامل بينها ونواحي القصور فيها والفجوات التي تفصل بينها وتوصّل إلى إنجازات هامة في مجال التنسيق، على رأسها وضع الإستراتيجية العامة للرعاية الصحية في المملكة التي تنطلق في أسسها وسياساتها من مبادئ النظام الصحي المشار إليه، غير أنها أشمل وأكثر تفصيلاً، لكنْ تفتقر إلى صياغة وقوّة النظام الملزم (قانون). وقد اكتسب المجلس الصحي السعودي بعد أن جرى تعديل المادتين (16، 17) منالنظام الصحي صفة الشخصية الاعتبارية ذات الميزانية المستقلة، وتغيّر مسمّاه ومهامّه وتشكيله (حيث أضيفت وزارات المالية والتخطيط والخدمة المدنية والتعليم).
وفي ضوء ما أوضحته آنفاً فإننى متيقّن أن المجلس في وضعه الجديد بإمكانه أن يقوم (بتجبير كسور) النظام الصحي الراهن وربط أجزائه من خلال الآتي:-
أ- تحديث وتعديل (النظام الصحي الصادر عام 1423هـ) بما يسمح بتنظيم العلاقة والتعامل والتكامل بين كلّ أجزاء منظومة الخدمات الصحية الحكومية والأهلية، وتحديد أدوارها ومسؤولياتها وطرق تمويل وإدارة الخدمات الصحية، آخذاً في الاعتبار ما طرأ من مستجدات في توجهات السياسة الصحية (مثل أساليب الإدارة والتمويل) وتقنية المعلومات والتوزيع العادل للخدمات بين المناطق الجغرافية والشرائح الاجتماعية وضمان حقوق المرضى.
ب- بناء هيكل الرعاية الصحية في المملكة على قاعدة ارتباط كل أسرة بمركز لطب الأسرة - سواءً كان ذلك في مركز صحي حكومي أو مجمع طبي خاص، تتوافر فيهما القوى الفنّية المدرّبة ووسائل التشخيص والعلاج اللازمة للرعاية الأولية، وذلك لتوحيد مرجعية الملف الطبي لكل مريض أو عضوٍ بالأسرة، وضمان استمرار متابعة حالته الصحية، ومتابعة تحويله عند حاجته.
ج- اعتماد الطريقة الأمثل لتحمّل تكلفة الخدمة الصحية التى تقدّم لأيّ مريض في أيّ مستوىً من مستويات الرعاية الصحية - سواء كان مسجّلاً في المركز الصحي الحكومي أو المجمّع الطبي الخاص.