د. جاسر الحربش
الاضطرابات التي تضرب المنطقة سيطرت للأسف على المناقشات والكتابات والتغطيات والبرامج الإعلامية، وصرفت الرأي الخاص والعام عن قضايا داخلية رغم أهميتها. بضع جولات استطلاعية تطوعية على مراكز التسوق الكبرى والبقالات والدكاكين وخدمات السيارات ومحطات البنزين والصيدليات وأسواق الخضار واللحوم والأسماك، تفتح العيون على الغلط الذي نحن ماضون فيه. الاقتصاد الحقيقي، أي العمل والخدمات والبيع والشراء وجني الأرباح ليست بيد المواطن. الاقتصاد الحقيقي في كامل دول الخليج وخصوصاً السعودية، تمسك به الأيادي الأجنبية. من يمسك بالتبادل الاقتصادي في الميدان يصبح هو المتحكم الفعلي بمقوّمات الحياة الأساسية. كون الدولة/ الحكومة وطبقة الأثرياء يمتلكون رؤوس أموال كبيرة ومحافظ أسهم وقصوراً واسعة، لا يضمن للمجتمع استقراره المعيشي ولا الأمني، لأنّ من يبيع ويشتري ويحضر ويقدم الطعام ويراجع الحسابات ويمسك الدفاتر ليس من أهل الدار. راجع جنسيات أعضاء مجالس الإدارات والمناصب القيادية في أي شركة كبرى أو بنك وسوف تعرف أكثر. نفس الوضع سوف تجده في المنازل والقصور.
أما اختياري للعنوان باللهجة الدارجة (ماشين غلط) فهو بسبب التركيز على حالة شعبية شاملة بصيغة الجمع ، وصاحبكم لا يستثني نفسه، فهو مجرّد عود وسط حزمة كما يقول المثل، ولا يستطيع البدء بنفسه. من المتعذر لأفراد قلائل التصرف مع الحياة اليومية حسب قناعاتهم المعيشية، ومن المؤكد أنهم سوف يعانون عائليا ً واجتماعيا ً من العزلة وهزّ الرؤوس، والمثل يقول الموت مع الجماعة رحمة. التغييرات الإيجابية الكبرى في المجتمعات تحتاج إلى قدوات مطاعة تضع اللوائح والتنظيمات المناسبة لتطبقها على نفسها فيقتنع المواطن العادي ويرضى.
المهم ، الغلط الذي أزعم أننا عليه واضح في أكثر ممارساتنا اليومية ، ولابد من أمثلة للتوضيح. نحن نعيش في أفقر بقعة في العالم بالمصادر المائية، ومع ذلك نستهلك الكمية الأعلى للفرد على مستوى العالم. واحد من أهم الأسباب وجود عشرة ملايين مقيم مستقدم يشاركنا في استهلاك مصادرنا المحدودة من المياه ، وهذا حقه الذي لا جدال فيه. لكن المشكلة تصبح من أعاجيب الاستهتار حين يكون هؤلاء العشرة ملايين، هم الذين يتحكمون بصنابير وأنابيب المياه في المزارع والحدائق والشوارع والفنادق والمطابخ والمستشفيات ومغاسل السيارات والمنازل والاستراحات ومصانع المنتجات الغذائية. هؤلاء كلهم استقدموا من بيئات أمطار وأنهار وشلالات، أي من بلدان يعتبر فيها الماء السلعة المجانية الوحيدة. عندما نترك لهم التحكم بالمياه في بيئة لا تمطر فيها السماء أكثر من أسبوع في السنة، سوف يتعاملون مع الماء بثقافاتهم البيئية التي نشؤوا فيها. الوصف لمثل هذا الوضع هو أننا ماشين غلط ، أو بغباء قاتل.
المثال الآخر لا يقل أهمية لأنّ له علاقة بالصحة والمرض. السمنة والسكري وانسدادات الشرايين والإجهاد العضلي السريع وانقطاع النفس مع أقل جهد، والشكوى الشاملة من آلام المفاصل والعظام ، هذه الظواهر المقلقة لا نجدها عند العمالة المستقدمة. الفرق الواضح في الكفاءة الصحية لصالح المستقدم لم توجد حتى الآن للأسف محفزا ً كافياً ً للسلطات الصحية للدراسة واقتراح الحلول لمن يهمه الأمر. العاملة المنزلية أقوى وأصلب عودا ً وأوسع نفسا ً من سيدة المنزل وقطيع بناتها. السائق أقوى بمراحل من كفيله ومن قطعان أولاده الذكور. لا أنصح من يعتقد العكس باختبار الواقع لأنّ المسألة هنا ليست بالوزن والطول وشدة الصراخ. السبب هو أنّ المخدوم من الجنسين يأكل أكثر مما يستحق ويحتاج ويتكرفس تحت المكيف في حله وترحاله. المضحك هو أنّ قضاء بعض الوقت في الاستراحة أصبح من البرامج المعيشية المحلية ولو بالإيجار، لمواطنين كانوا قبل عقود قليلة لا يعرفون المفردة المعبرة عن الراحة أو الإجازة. لذلك أصبحت مفردة «استراحة» بالمفهوم السعودي من أوضح الدلالات على خداع النفس. المستريح في الاستراحة لا يتعامل هناك مع وضعه الصحي للتخلص من الأمراض التي اكتسبها من أسلوبه المعيشي اليومي الخامل ، للمشي أو الهرولة أو السباحة أو سياقة الدراجة. ما يفعله المواطن السعودي في الاستراحة مجرد استمرار لتبادل الحكايات والجدال ولعب الورق ثم الأكل الدسم قبل العودة للنوم في المنزل. هذا المثل على المشي الغلط بالذات يتطلب الوقوف والتأمل أكثر من غيره. نحن ندفع الأموال للتنازل عن أهم شروط العافية للعمالة المستقدمة ، ونستمر في التذمر من الشروط التصاعدية للاستقدام، وكان حرياً بنا أن نستبشر وأن تتصرف الدولة بناءً على ذلك لصالح المستقبل.
تبقى الأمثلة على المشي الغلط كثيرة جداً، ولكن الغلط مع المياه والصحة يكفي لهذا المقال.