د. حسن بن فهد الهويمل
أنا متأكد من أننا لا نقول إلا معاراً، أو معاداً من قولنا مكروراً. ومقاربة التكرار تتوسل: بالتذكير لا بالتعليم، وبالمصداقية لا بالمراء. على حد:- [الآية هي الآية ولكن الشخص غير الشخص].
كلنا ننادي بفضائل الأعمال، وما من متحدث إلا هو الأحرص على الإمتاع، والإقناع، والاستمالة.
وكم من خطيب بُحَّ صوتُه بأجمل القول. ولأن أغلب المستهدفين صم، بكم، عمي فإن الرسالة تمرق من الوعي كما السهم يمرق من الرَّمِيَّة.
إن فيض الكلام إن لم يُعَد باحترافية، وإن لم يُعْرف المتلقي بكل تفاصيله، فإنه ينقلب على صاحبه، مثلما ينقلب السحر على الساحر.
وكيف لا نتقن الرسالة، وتدق رؤيتنا في تصور المتلقي، ومقتضى الحال، والرسول صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُ أصحابه بالموعظة، على الرغم من أنه أوتي جوامع الكلم، وأوتي أصحابِه السمع، والطاعة، وحسن الاستجابة.
إن المثالية المتجاهلة للواقع، والممكن، والفوقية المتعالية على المتلقي، تُحَوِّل راجمات البلاغة إلى راجمات تضليل، تقضي على رسيس المفيد.
واقعنا الكسيح نزيد في كساحه، حين نحمله على الركض برجله، ونزيف وعيه، حين نقول: إنَّ مُحِيطه مغتسل بارد، وشراب.
دعونا نمتلك الشجاعة، والثقة، ونواجه أنفسنا بما نحن عليه من مثبطات متنوعة. نحن جزء من هذا العالم الموبوء، وإن لم نتقن قواعد اللعب المنهمرة على أرضنا، فإننا سنكون في سياقه فاقدي الأهلية، ومنتهي الصلاحية.
ولأننا في [المملكة العربية السعودية] جزءٌ فاعل، في عالم مضطرب، نمتلك أعماقاً: جغرافية، واقتصادية، وسياسية، ودينية، وبشرية مؤثرة، فإن من واجبنا أن نحسن إدارة هذه الإمكانيات. غَيْرُنا يتطلبُ تعامُله مع الآخر أن يتوفر على بعض ما عندنا.
هناك [ساقةُ]، و[مقدمة]. ورهانُ النجاح يكمن في حفظ الساقةِ، والريادةِ للمقدمة. ولا نجاح لأي مشروع حين لا يؤتمنُ من يحفظ الساقة، أو من يرود للمقدمة. وكيف نتصور الخيانة، و[الرائد لا يكذب أهله].
المعنيون بصناعة الوعي الوطني نثروا كنانتهم، وعرفوا أن أصْلَبها عوداً [المواطن]. إنه رهان [المملكة العربية السعودية]؛ لأنه مادة التماسك للجبهة الداخلية، وبخاصة أثناء موجة التهاوي للأنظِمة العربية، زمن [الربيع العربي].
لقد أدرك المواطن أن خياره الوحيد يتمثل في نظامه السياسي بوصفه أفضل الموجود. إنه خيار التجربة، والعمق، والتلاحم، والتاريخ المجيد.
خيار المواطن لم يَتَجَلَّ مع ظاهرة [الربيع العربي] وحسب. لقد تجلى أثناء موجة الانقلابات العسكرية المتلاحقة، التي أطاحت بكل الأنظمة الملكية، والجمهورية، الصالحة، والطالحة.
وهو إذ لم يذعن للاستدراج منذ ثورة [حسني الزعيم] فقد توفر على الاستقرار، والرخاء، والأمن. وشغلته التنمية، وصناعة الإنسان، واستكمال كافة البُنى، وتجسيد الحكم المدني، المتَمَثِّل لكل القيم الإسلامية، الحضارية، والمدنية.
ولأن لكل كيان ثغراته، ولكل كيان أعداءه، ولكل نِعْمةٍ حُسَّادها، فقد عانت المملكة من تلك الثنيات، التي أهْملَ بَعْضَها الرماةُ، بحيث التف علينا الخصومُ منها، ومن ثم شغلتنا مقاومتهم عن جلائل الأعمال.
كل لقاء، أو مؤتمر تنظمه أي جهة علمية، أو تعليمية، أو دينية، أو سياسية يَسْعى جهده لتفادي النقص عن التمام.
بلادُنا مستهدفةٌ، وجَلَدُ أعدائها يُوجِبُ على نخبها أخذ الحذر، والحيْطة، واستكمال متطلبات المرحلة الأكثر تعقيداً، والأخطر بمفاجآتها.
هناك عدة تَعْبِئات في الأزمنة الرتيبة، فضلاً عن العصيبة. تأتي في مقدمتها التعبئة: الحسية، والمعنوية.
فالحسية تتمثل بالجيش، ومتطلباته. وقد بَهَرْنا العالم في [عاصفة الحزم] وانتزعنا الإعجاب، والإكبار. حتى لقد أعاد أعداؤنا حساباتهم.
والتعبئة المعنوية، وهي ما نحن بصدد الحديث عنها، والسعي لترتيب أسلوب إعدادها، وحسن صياغتها. إنها [الجبهة الداخلية].
ولأن المملكة متفوقة في بناء قوتها العسكرية، فإن من الصعوبة بمكان تفكير الأعداء في مواجهتها، أو الاقتراب من حماها. ولم يبقَ أمام الأعداء إلا [الجبهة الداخلية].
والقوة لا تُقاس بعدد الطائرات، والدبابات، والراجمات، والأفراد. وإنما تقاس بشطريها: [القوة] و[القدرة].
و[القدرة] مجموعة القيم المعنوية التي لا تنتجها المصانع، وإنما تكوِّنها التربية، والتعليم، والإعلام، وتضطلع بها النخب الفكرية.
إذاً، نحن أمام [قدرة] مُوَازِيةٍ لـ[القُوة]. الدول المهيبة الجانب هي التي تمتلك اقتصاداً ثابتاً، لا تزعزعه العوارض. وسياسة متجذرة بتجاربها. ومرونة في التكيف مع المتغيرات. وعقيدة قوية، نبراسها القرآن الكريم. وجبهة داخلية متماسكة، واثقة، وموثوق بها.
والمملكة تتوفر على قسط وافر من تلك الإمكانيات.
ودور المواطن يتمثل بالمحافظة على المثمنات، قبل التحرف لإضافات جديدة.
وتلك مهمة أيسر من تكوين مثل تلك المقومات. وبعض ذلك ما تتطلبه سائر الدول المناوئة.
المواطن السعودي كوطنه هو الآخر مستهدف. والمؤسسات التعليمية، والدينية، والإعلامية، والسياسية، والفكرية، والأدبية هي وحدها المسؤولة عن تكوين [القدرة] إلى جانب [القوة].
ولما كانت [القدرةُ] مجموعةَ قيمٍ سلوكيةٍ، ومعْرفية، وفكريةٍ، وعقائدية منسجمة مع سياسة الدولة الملتزمة بمقتضيات البيعة، ومحققاتها، فإن تشكيلها لا يتم عن طريق الصفقات التجارية. وإنما يتحقق بالتوعية، والتربية، والحماية. ولكل مَهْيَعٍ طرائقه.
إن رهانات الأعداء بكل تعددهم، وتنوعهم، دولاً كانوا، أو طوائف، أو منظمات، أو أفراداً، تكمن في اللحمة الوطنية. إنهم أعجز من أن يدنسوا شبراً من أرضنا، ولكنهم الأقوى في اختراق أجوائنا الفكرية.
اللحمة الوطنية تتأثر بالاختراقات الفكرية، وأعداؤنا ناشطون في صياغة خطاب إغرائي، إغوائي، جذاب، عبر كل الوسائط المتاحة، بما فيها [الطابور الخامس] من العملاء السماعين. هذا الخِطَابُ يركز على الناشئة المثالية القابلة للاستجابة.
ما لا أتردد بالاعتراف به قصور سائر وسائلنا التعليمية، والدينية، والإعلامية، والفكرية عن مسايرة وسائل الغزو الفكري وتحرفاته.
ويكفي للتدليل على ذلك [خطبة الجمعة]. إن منابر الجوامع عندنا تضخ أكثر من خمسين ألف خطبة سنوياً، تَسْتقطب كافة المكلفين، وتلزمهم بالإنصات، حتى أن من مَسَّ الحصى فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له.
ويكفي للتدليل على ذلك، أن كافة المؤسسات التعليمية، والدينية، والإعلامية، والفكرية، والأدبية، تسعى، وتحفد، لضخ النصائح، التي قد لا تلامس حِسَّنا الأمني.
وكل ذلك لم يكن بحجم ما تحققه وسائلُ دعويةٌ مُطَارَدةٌ، استطاعت أن تحمل مريديها على طلب الموت بالأحزمة الناسفة، والسيارات المفخخة، وسائر وسائل التدمير.
فأين أثر ما ننفق عليه المليارات من وسائل الوعظ، والتوعية، والتربية؟
لا ننكر الأثر، ولكنه دون المؤمل. وشكايتنا لا تتجاهل ما نحن فيه. نحن بخير، ولكننا نطلب المزيد، ونحذر من الغفلة.
إننا حين لا نحسم صراعاتنا الفكرية بمثل ما حسمنا به مواجهاتنا العسكرية لصالحنا، فإننا بحاجة إلى إعادة النظر في كافة أساليب طرحنا الفكري، والديني، والتعليمي، والإعلامي.
إن تعويلنا على المعلم، والعالم، والمفكر، والإعلامي، وما لم يتوفر هؤلاء على الإيمان الراسخ، والمعرفة التامة، والمنهج السليم، والآلية الدقيقة، والحماس المتوقد، ومعرفة أدق التفاصيل عن الآخر، والتوفر على جلده، فإن أجواءنا ستكون أكثر تلوثاً، وناشئتنا أكثر تضرراً. ثم لا يتوفر لقوتنا ما تتطلبه من حماية الساقة.
إننا حين نطالب [المجاهد بالسلاح] بأن يكون مؤمناً بقضيته، شجاعاً في ساحته، ماهراً في استعمال آليته، متوفراً على الروح القتالية.. فإننا نطالب [المجاهد بالكلمة] بأن يكون كذلك، مُؤمِناً، واعياً، متمكناً، دافعاً بالتي هي أحسن، داعياً بالحكمة، والموعظة الحسنة، متعالياً فوق الخلافات الجانبية، متفسحاً للمخالف، معتبراً الاختلاف من باب السعة، والرحمة.
إن توظيف الخطاب الثقافي والديني للمذهب، أو للحزب، أو للطائفة، على حساب الجماعة التي وضع الله يده معها، مؤذن بالفشل، وذهاب الريح. إن الإبقاء على الجماعة مُقَدَّمٌ على ما سواه. تمشياً مع قاعدة: [درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح].
قد يتساءل البعض:
كيف السبيل إلى وصال هذه القيم؟
وهو تساؤل مشروع. قد نستطيع بالإجابة عنه رسم [خارطة طريق]، تمكّن المؤسسات الدينية، والتعليمية، والإعلامية من التحرف لأساليب متطورة، تحول دون اختراق أجْوَائِنا الفكرية، وتصديع لحمتنا الوطنية.
أول هذه البدائل:
- تحقيق مفهوم [الوطنية] و[الهوية] وضبطها.
- القطع بأن الولاء الديني لا يتعارض مع الولاء السياسي، والوطني، وأن الحب الجِبِلِّي لا يتعارض مع الحب العقدي.
- التوفر على فقه الواقع، والأولويات، والتمكين.
- مقاربة قواعد اللعب، وفهمها قبل الدخول في دوامتها.
- رفع الملفات الساخنة: الحقيقية والمفتعلة.
- عدم ربط الواجبات بالحقوق، فالمواطنة لا تستقيم مع المقايضة.
- النظر إلى الوطن على أنه سفينة مُسْتَهم عليها، وعلى كل الأطياف تفادي خرقها.
- التسامح، والتعايش، والتعاذر، والوسطية. والنظر إلى الاختلاف على أنه سعة، ورحمة.
- الدعوة إلى القيم والثوابت بالحكمة، والموعظة الحسنة.
- اعتماد الإبلاغ، كمنهج للدعوة، تمشياً مع [بَلِّغوا عني ولو آية] وهذا يقتضي عدم التنازع، والتنابز.
- فهم المصطلحات الإسلامية، وتحرير مسائلها كـ[الجهاد]، و[التكفير]، و[الولاء، والبراء] و[الأممية] و[الإقليمية].
- تحامي نفي المصطلحات الإسلامية، بحجة أن طائفة ما فهمتها على غير مراد الله.
- تفادي أن يذهب كل عالم أو مفكر بما توصل إليه من فهم للنص التشريعي، وتضليل من لم يأخذ برؤيته.
- النظر إلى المرحلة على أنها إعصار فيه نار، وسَوْرةُ غضب عارم، لا يتخذ فيها قرار فردي، أو حزبي، أو طائفي.
- عدم استغلال الإمكانيات لتبادل الاتهامات، وتقوية جانب الخصم، بتعميق الخلافات فيما بين أطيافنا.
- الخلوص من لجة الفتن بلزوم الجماعة.
- تبرئة مكوناتنا الفكرية، والسياسية، والدينية من الاتهام بأنها تصدِّر التطرف، والإرهاب.
- ربط التعامل مع الآخر بالسلطة الشرعية، فـ[الكفر] و[البدع الطائفية] لا يخولان المواجهة، دون قرار سيادي.
و[المملكة العربية السعودية] بما هي عليه من أمن، وإيمان، ورخاء، واستقرار، وإقامة لشعائر الدين، وحكم بما أنزل الله، وخدمة للمقدسات هي الجمَاعة المتاحة. نَحْسِبُها كذلك، ولا نزكي على الله أحداً.
والدعوة إلى لزوم الجماعة لا تحول دون مراجعة كل أشيائها بروح النقد البنَّاء، والتساؤل الواثق.