د. محمد البشر
أوردنا في المقالة السابقة شيئاً مما سطره ابن بطوطة عن حلب أو بالأحرى ما كتبه ابن جزى باسم ابن بطوطة بأمر من السلطان: وبعد أن حلّ في دمشق أطراها إطراء ليس فوقه مزيد، وحلاها تحلية للمراد من المريد، ونقل لنا محمد بن جابر بن حسان القيسي الوادي آشينسبة إلى وادي آشي بجنوب الأندلس، ونزيل تونس، والمتوفى بها من ضمن من فارقوا الحياة بسبب الطاعون الذي كان له موجات تفني الكثير من البشر من حين إلى حين، ونقل ما قال ابن جبير، وكما يقول: فقد أحسن فيما وصف منها وأجاد، وتوق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد هذا وإن لم تكن له بها إقامة ومما قال: القيتها كما تصف الألسن، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ولعل من المناسب إيراد ما قاله ابن سعيد الفنسي الغرناطي المدعو نور الدين، وهو الزائر للشام قبل ابن بطوطة، والمبدع في شعره ونثره فقال: القضب راقصة والطير صادحة والزهر مرتفع، والماء منحدر وقد تجلت من اللذات أوجهها لكنها بظلام الدوح تستر وكل واد بها موسى يفجره وكل روض على حافاتها الخضرُمن يقول مثل هذا الشعر غير ابن سعيد، إبداع في كل المحسنات البديعيه، تجاوز فيه الحد، كما هو شعره وهو في الأندلس، عفا الله عنه.
ومن غريب ما أورد ابن بطوطة أن أهل دمشق لا يعملون يوم السبت عملاً إنما يخرجون إلى المنتزهات، وشطوط الأنهار، ودوحات الأشجار، بين البساتين النضيرة، والمياه الجارية، يكونون بها إلى الليل. والحقيقة أنني لا أعلم لماذا يوم السبت، وهل هو إضافة إلى يوم الجمعة، وإنما يمنعهم من الخروج إلى الشواطئ حرصهم على صلاة الجمعة جماعة، أو أنهم يعملون يوم الجمعة، بينما إجازتهم الأسبوعية يوم السبت، وهذا يذكرني بما كان بالأندلس، حيث أن أحد وزراء الأمير محمد بن عبدالرحمن المرواني، نصرانياً وكان لا يحضر يوم الأحد فأصبحت إجازة متعارف عليها. واستمرت بعده مع من حكم بعده.
وقد ذكر ابن بطوطة جامع دمشق، وذكر أنه أعظم مساجد الدنيا بنياناً، وأتقنها صناعة، وأبدعها حسناً، وذكر أن الوليد بن عبدالملك بن مروان، قد وجه إلى ملك القسطنطينة بأمره أن يبعث إليه الصناع فبعث إليه اثني عشر ألفاً.
ولا أعلم حقيقة أن يستعين الوليد بغير المسلمين لبناء المسجد، وهذه معلومة يجب التوقف عندها لا سيما أن الوقفات أمام ما ورده ابن بطوطة كثيرة، مع ما قدمه لنا من إضافات مقيدة.
وقد ذكر أن الصومعتين الشرقية والغربية من بناء الروم، بينما أن الثالثة والرابعة من بناء المسلمين وأقول: ربما أن الوليد قد دعاهم إلى الإسلام فأسلموا قبل بنائهم المسجد، وأن كان عددهم اثني عشر ألفاً. وذكر أن الناس يجتمعون به بعد صلاة العصر، ليقرأ القراء بقراءة تسمى الكوثرية أي أنها تبتدئ بسورة الكوثر حتى ختم القرآن، وعددهم ستمائة إنسان، ويتحرى لهم رواتب، ولا أعلم لهذه العادة من القراءة مصدراً من السنة النبوية.
وللمسجد ثلاثة عشر إماماً منهم الشافعي، والمالكي، والحنفي، والحنبلي، وهناك إضافة جديدة، وهي وجود عدد من الأئمة عدد نحو خمسة، يقال لهم أئمة الفوائد، وهم يصلون بمن تفوتهم الصلاة، ويستمر تواجدهم في المسجد تناوباً حتى صلاة الفجر، فهذا المسجد لا يخلوا ليلاً أو نهاراً من إمام إما مقيماً للصلاة أو منتظراً لم يأت ليصلي به، وهذه في الحقيقة طريقة طريفة وغريبة.
وذكر ابن بطوطة أنه قد حل بدمشق مرض الطاعون الأعظم في أواخر شهر ربيع الثاني سنة تسع وأربعين، وقد علق الأستاذ عبد الهادي التازي -رحمه الله- على ما أورده ابن بطوطة فقال: يلاحظ هنا واضحاً أن ابن بطوطة قد أقحم هذا في هذه الزيارة الأولى، ما سيقع له أثناء عودته من رحلته عام 747 هجرية، ويلاحظ كذلك أنه أهمل ذكر تزوجه في دمشق بسيدة حفيدة لأحد المكناسين نسبة إلى مكناس في المغرب، وذلك منذ الزيارة الأولى ولم يذكر ذلك إلا عند الزيارة الثانية.
لقد ذكر ابن بطوطة الكثير عن دمشق، ومساجدها وآثارها وكرومها، ودوحاتها، أو ينابيعها، وأراضيها، وأسهب في ذلك، ونقل لنا الكثير من آثارها ومآثرها الرائعة، ولم لا وهي عاصمة الحكم الأموي الذي انتشر في عصر الإسلام إلى أقطار كثيرة في المشرق والمغرب.
وبيت القصيد، أننا نقرأ تلك الصورة، وهي ترسم بكلمات ابن جزى، وذاكرة ابن بطوطة، وتقارنها بما حل بها اليوم من خراب ودمار، وظلم وتشريد لأهلها، لا لشيء سوى للبقاء على كرسي وثير، رآه النظام قد خصص له دون سواه، حتى وإن كان الشعب المغلوب على أمره لا يريد غير سواه، ويبدو أنه مصر على الجلوس، حتى يقتلع بأي أسلوب كان.. أدام الله علينا الأمن والأمان وحمانا من المتربصين والكائدين، ورفع راية الإسلام الحق خفاقة إلى يوم الدين.