د. عبد الله المعيلي
لقد خلق الله الخلق مختلفين، وأوجه الاختلاف بينهم عديدة صورها؛ فهم مختلفون في الألوان والأجسام والأشكال، مختلفون في اللغات والقدرات والميول والاتجاهات، مختلفون في الأديان والعقائد، وفي الأفهام والآراء، في القبول والرفض، وفي أمور أخرى يتعذر حصرها وذكرها؛ وذلك لحكمة لا يعلمها إلا الله وحده، قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة واحدة وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (118) سورة هود
مقتضى الآية يدل على أن الله قادر على أن يجعل البشر كلهم على نسق واحد، نمط واحد، لكنه سبحانه ارتضى لهم الاختلاف؛ وبالتالي يجب ألا نضيق بهذا الاختلاف ذرعاً، بل يجب التعامل معه على اعتبار أنه مما أقره الله ورضيه لعباده، وأنه مما يثري المعرفة البشرية وينوعها، ومما يعطي هامشاً واسعاً لتبادل الخبرات، والاستفادة من التجارب، وتوظيف الآراء على اختلافها، بما يتوافق مع قدرات الناس وإمكاناتهم. وبهذا يتبين أن الاختلاف مطلبٌ بشري، وأن الحياة تفقد بريقها ورونقها لو أن كل بني البشر نسخ كربونية من بعض، متماثلة متشابهة.
ومما لا ريب فيه أن الاختلاف يكون في الأمور التي لا بأس من الاختلاف فيها، في الأمور التي تقبل الاختلاف؛ لأن في الاختلاف سعة ورحمة، وإثراء للمعرفة وتنويعاً لها. الحق بيّن، والباطل بيّن، المهم ألا يفضي هذا الاختلاف إلى تدابر وتباغض، وإلى تصيُّد الأخطاء والزلات، وإلى الخوض في النوايا والأعراض.
قال ابن رجب رحمه الله: «ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض في الله، وقد يكون في نفس الوقت معذور، وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متبعاً لهواه، مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيراً من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعاً، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه فهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا قد يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه، ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه، خشية أن يقع فيما نُهي عنه من البغض المحرم» جامع العلوم والحكم ص 330.
بلوى ابتُلي بها الناس في هذا الزمان، ألا وهي التباغض والتدابر لمجرد الاختلاف في الرأي. وتزداد المصيبة عظماً في كون التباغض في الله، ومن أجل الله، دون تحرٍّ أو تثبُّت فيما اختُلف فيه، بل غالباً ما يبنى التباغض على ظن من المبغض، أو استناد إلى ما يتواتر من قيل وقال من مصادر غير موثقة، أو على تصنيف حمل المبغض على الميل إلى ما ألفه وآمن به من هذا العالِم أو ذاك، أو ما تواتر من منقول الآراء والأخبار، دون أن يكلف نفسه ويتحقق من صحة ما حمله على البغض من مصادره المباشرة.
إن الحذر والتحرز من الوقوع في مصائد البغض والكراهية المبنية على الظنون أمرٌ يدركه العقلاء، ويؤمنون به، ويؤيدونه، ويدعون إليه، وكذا أصحاب الفِطَر السليمة من ملوثات الفكر والتصنيف التي عطلت ما زود الله به العقل البشري من مقومات التبيُّن والتثبُّت؛ كي لا تغدو العقول جسوراً سهلة للتصنيف والجهالة على الآخرين، والنَّيل منهم، وسبهم، والطعن في ذممهم، وحمل النفوس على كراهيتهم وبغضهم، لمجرد اختلاف في اجتهاد، أو اتباع لقناعة اختلفت فيها الأفهام، أو الاستناد إلى موقف خاطئ تم التراجع عنه.
العقول السوية تتسم بالعدالة والتوازن في الحكم على المختلف، فلا انفعال ولا تصنيف ولا إبعاد، بل تقديراً منصفاً، وتعاملاً واعياً، لا مغالاة فيه ولا إجحاف، ولا إقصاء ولا استبعاد، أو تشكيكاً في المقاصد والنوايا. وبهذا تقوى لحمة المجتمع، ويتعزز سلمه الاجتماعي.