د. عبد الله المعيلي
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه يوماً- لجلسائه: تمنوا:
قال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم، فأنفقها في سبيل الله.
قال عمر: تمنوا، فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهباً، فأنفقه في سبيل الله.
فقال عمر: ولكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً من أمثال عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله.
رضي الله عنك يا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فرؤيتك دائماً صائبة، وسعيك وجهدك مسخر في سبيل الله وطاعته، نعم ما أحوج الأمة بالأمس إلى أمثال هؤلاء الرجال، واليوم تتأكد حاجتها إليهم بصفة أكثر إلحاحاً، إنهم الرجال الأقوياء الأشداء الأمناء، إنهم فخر كل زمان، وصناع مجده وتاريخه، بهم يشد الظهر، وتقهر الصعاب، ويدحر الأعداء، ويتحقق النصر، وتبلغ الأماني مناها، والنجاحات أقصى درجاتها، وقد ثبت من استقراء حوادث التاريخ ونوازله أن الإمكانات مهما كانت درجات كمالها وقوتها لا تجدي نفعاً إذا لم تكن تحت إدارة هؤلاء الرجال الحكماء «الرواحل» يقول المتنبي:
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا
إذا لم يكن فوق الكرام كرام
قال أحد المسؤولين آه وآه، ثم آه من قلة الرجال، فرد عليه أحد الجلساء البسطاء ممن تغره المظاهر البراقة، أيعقل أن تشكو من قلة الرجال في هذا الزمن الذي نراهم فيه ملء السمع والبصر من كثرة عددهم؟.. فرد عليه المسؤول وهو يكاد يتميز من الغيظ، أنت في واد، وأنا في واد آخر، نظرتك غير نظرتي، ومعاييرك غير معاييري، وتقييمك غير تقييمي، نعم فحسب نظرتك الهامشية العابرة، ومعاييرك السطحية التي تبهرها المظاهر وتغفل عن المخابر، الرجال اليوم كثيرون جداً، لكنني لا أتنمى هؤلاء، ولا حاجة لي في أمثالهم، أنا نظرتي ومعاييري وأماني، كمال المخبر وقدراته، وأصالة الجوهر وتمامه، وكما تمنى سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، رجال أمثال عبيدة بن الجراح، إنهم الأفذاذ الذين قل أن يجود الزمان بأمثالهم.
إنه زمن قلة الرواحل بل ندرتها، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنما الناس كالمائة من الإبل، لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري ومسلم.
لا أحد ينكر البتة أننا في زمن قل فيه الرجال الأكفاء، الذين يشد بهم الظهر، الأقوياء الأمناء على إدارة العمل بكفاءة، والإخلاص في إنجاز أعماله وفق الأهداف والغايات المنشودة، هذه حقيقة مرة مؤلمة رغم توفر الرجال سواء من حيث العدد أو التأهيل، وتوفر السمات الشخصية الثانوية التي تلفت النظر في الكثير منهم، سمات الشكل التي تثير الانتباه والإعجاب، ولكنها مجرد مظاهر سراب خداعة، تغش الرائي فيحسب أن الشخص الذي أمامه ذو كفاءة وقدرة، وما علم أنه وقع في فخ، وأنه «استسمن ذا ورم»، شخص هلامي أجوف، لا يحسن صنعاً، ولا يمتلك مهارات القيادة، وتفعيل أدوار العاملين معه وتوظيفها في تطوير الجهاز وتحسين أدائه بأقصى درجات الكفاءة الممكنة.
معضلة النقص هذه يبدو أنها ملازمة لبني البشر عامة، وبالتالي تعد بمثابة الظاهرة في كل الأمم والمجتمعات، ومع هذا لم تعدم الأمم المتطلعة للمزاحمة والنجاح أن تجد سبلاً للكشف عن معادن الرجال القادرين بكفاءة على القيادة وصناعة النجاحات في الأجهزة التي يوكل إليهم مهمات إدارتها والرفع من كفاءة أدائها، وتحسينه وتطويره إلى درجات الكمال الممكنة.. وعلى الرغم من ذلك لن يخلو أي مجتمع من رواحل يمكن يشد بها الظهر في إنجاز المهمات بكفاءة واقتدار.