د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في احتفاء النادي الأدبي بالرياض وشريكه الداعم من القطاع الخاص «بنك الرياض» بجائزة كتاب العام في دورتها الثامنة في مستهل الأسبوع الماضي؛ حطت تظاهرة ثقافية باذخة في ليلة مخملية مشرقة الحضور الذي اعتلى منصته معالي وزير المثقفين، ونخبة من أصحاب الصناعة، والقائمين عليها، ونزر من المؤلفة قلوبهم لعلهم إليها يرجعون؛ ولا غرو فالأهداف وافرة المقاصد؛ كما هي دائما بوارق النادي العريق وبروقه؛ ومن سوانح ذكرياتي أن شيخ الأدب الموسوعي الجليل عبدالله بن خميس رحمه الله عندما كنت أطرح حوارا معه حول النادي الأدبي بالرياض إبان إعدادي
لأطروحتي عن أدبه؛ فإنه رحمه الله يبادرني بشعر الأموي الصمة بن عبدالله القشيري:
إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضه
أتتنا بريّاه فطاب هبوبها
أتتنا بمسك خالط المسك عنبر
وريح خُزامى باكرتها جنوبها
ولا أدري ماهي الصلة بين رياّ القشيري والنادي الأدبي بالرياض؛ ولعله الحنين «وتذكُر جيران بذي سلم» حيث كان رحمه الله أول رئيس للنادي.. أو ربما كان استشراف مستقبل النادي الذي هو حاضره اليوم.
في مساء الجائزة الثقافي كان الفكر ودفق القلم؛ الذي أقسم به رب العزة والجلال {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (1) سورة القلم، كلاهما سبيل لميلاد جديد مكتوب بين دفتي كتابين عربيين أثيرين شمخت بهما قدرة عقلين عربيين أتما سباق الجائزة بحرّفنة عالية.
لقد كنا ومازلنا نتوق إلى دعم ومساندة الإنتاج الثقافي الفردي من قنوات الثقافة النامية حتى ندلف من خلال تلك البوابات الثقافية الصغيرة إلى البوابات الكبيرة لتصبح الثقافة لدينا أعمالا مؤسسية تتعانق وتتعالق؛ وإذا ما سلّمنا أن الثقافة المكتوبة لا يمكن تكوين الوعي من خلالها إذا ما اعتمدنا على تعانق مضامينها فقط دون تحليل وتقويم لمنهجية الكاتب، وأبعاد المضمون حتى نستطيع أن نصل إلى لب الفكرة ونفصل إذا ما كان يجب أن يكون للكتاب استحقاق من أهل العقول أم أنها «ثقافة مخدع» وإهدار للجهد والوقت.
وجائزة كتاب العام التي تبنّاها النادي الأدبي مجهر حكيم، وحفز للمؤلفين السعوديين للإبداع وإضافة نوعية لحركة النشر والتأليف في بلادنا، فالساحة الثقافية اليوم مفتوحة أمام جميع الفئات، لنشر المبادئ المُثلى، وشحذ الهمم للنهوض، كما أن قنواتنا الثقافية تستوعب محافل أخرى من صيد الأذهان، وقطوف الفكر، وشذرات العقول، فلابد من انعطافة مفصلية في صناعة الكتاب الثقافي في بلادنا حيث وادي عبقر، وحيث تربى سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحيث كانت هناك بادية ثرية تقصدها القوافل للبحث عن الفكر والمعرفة واستحصاد الرأي؛ ونتساءل ونحن في ذلك المحيط ومنه لماذا لم يعد الكتاب ذلك الفاتن الأريب القريب الذي تلتف حوله أطياف المجتمع؟!! وهل نجد في أجيال اليوم من يقرأ عددا من الكتب دون أن تصيبه وعثاء القراءة؟!! وهل أغمدت الجن معازفها في وادي عبقر لأنه لا يوجد هناك محفز أو ملهم؟!! ثم هل تمنعت اللغة على جيل العجمة فأعياهم فهم لغة الكتاب وصياغاته؟!!، وهنا قد تكون الرؤى حول ذلك النأي عن الكتاب من جوانب عديدة منها غموض التصنيف للكتاب ومكوناته الفكرية، وتعدد مرجعيات الكتاب ومحاضنه وإن كان البعض يعتبرها ظواهر صحية؛ ولكن قد يكون الرأي صوابا إلا فيما يخص الفكر الثقافي؛ كما أن قصور المنتج من الكتاب المفيد لقصور الوعي عن الأهمية والحاجة يُعد خسارة مدوية، والأخبار الخجولة عن مؤلفات المثقفين ونبضهم فيها شروع آخر لدفن الفكر وخواء داره؛ ثم التركيز في كثير من المؤلفات على التراث والثقافات الماضية والتواري عما يتطلبه الطرح الثقافي اليوم من قيم جديدة.
فنأمل أن يكون بناء محفزات التأليف مما يعزز أهداف الثقافة المنشودة للأجيال الحاضرة والقادمة؛ فالافتقار إلى احتضان النموذج المثقف ليسُنّ السنن الحسنة فقد للمحفز والداعم؛ كما أن عودة الكتاب عزيزة تحتاج إلى وقفة من الذات الرسمية، ومن الذات المجتمعية، ومن القنوات ذات العلاقة خاصة وقد غزته التقنية فملكته وما تملّكها، ولو تجمّل القوم مع الكتاب والمؤلف الخلاق احتفاء ورعاية وتكريما لطواها قبل أن تحظى بمفاتيحه؛ فيحدونا الأمل أن تتحقق من خلال الكتاب السعودي صناعة ثقافية يراهن عليها العالم من حولنا؛ مضمونها الرؤية العميقة، والاعتدال والعدل واللغة الهادئة، والصوت العاقل، ثقافة يعتدل من خلالها المائل، ويعذُب الماء ويصبح الفكر مخضرا خضِلا.
ونؤكد أن هناك تكامل بين غزارة مصادر الثقافة، وبين صناعة الكتاب، وأنهما الضرورة التي ينطلق منها بناء المجتمعات بناء وجدانيا تشرق في أروقته الحياة، فالثقافة وإن كانت مكتسبات فردية فهي دعائم مجتمعية لتحفيز الفكر الإنساني ليكون مورقا إيجابيا؛ وذخائر مفضلة بدرجة عالية في مراحل الزمن المختلفة، فإذا ما حُفّز المؤلفون على التأليف والعناية بالكتاب، وأُحسن إليهما ممن يقود قطار الثقافة فإنها ستكون بإذن الله كفاءة محفزة للفكر، ومصفوفة توضيح عليا للوعي المجتمعي، وعودة شامخة لخير جليس:
أعزّ مكان في الدنا سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتابُ
طاقات شكر لنادي الرياض الأدبي على برنامجه النامي للكتاب والكتّاب.. وهنيئا للعقلين العربيين الفائزين الدكتور عبدالله المنيف والدكتورة هند المطيري، وحقيقة جائزة الكتاب «فوز وزيادة» كما زيّنتها الدكتورة هند في قصيدتها الحافزة.